أزمة «كورونا» تعيدنا إلى الزراعة (1)

21:23 مساء
قراءة 3 دقائق

د. لويس حبيقة *

من أسوأ النتائج التي صدرت عن العولمة؛ تضخم القطاع الثالث أو الخدمات إلى حدود لم يشهدها العالم سابقاً. وانحدار القطاع الزراعي إلى حدود لم نعرفها من قبل. الجميع يريد العمل في القطاع الخدماتي أي المصارف والتأمين والسياحة والبورصة وغيرها والقليل يريد أن «يلوث» يديه في الصناعة والزراعة. انتعشت في العقود الماضية كليات إدارة الأعمال مالياً وبشرياً وتجهيزياً ونشرت ما تدرسه عالمياًَ من وسائل عملية للاستثمار والمضاربة لا تخلو من المخاطر الكبيرة. لم يعد بإمكان كليات الزراعة الاستمرار لغياب الطلب على خدماتها، فأقفل عدد كبير منها وتعثر التمويل في عدد آخر. هنالك اليوم عودة معاكسة إلى الزراعة بعد أن تبينت للجميع أخطاء التهور في المال المبني على الجشع والمخاطرة.

فالزراعة ليست قطاعاً فقط، إنما هي مصدر للحياة أي إنتاج السلع الزراعية والحيوانية المؤثرة أيضاً إيجاباً في المناخ والصحة. حتى في الدول التي لها مناخ مناسب تدنت حصة الزراعة في الاقتصاد وتدنى الإنتاج وارتفعت الأسعار وأصبح من الصعب إحياء الزراعة حتى مع الدعم السخي والحمايات المرتفعة. استطاعت أوروبا كما الولايات المتحدة الحفاظ على حيوية زراعاتها عبر الدعم السخي بعشرات مليارات الدولارات سنوياً استفاد منها للأسف كبار المزارعين مما وسع فجوة الدخل. هذا طبعاً جزء من الفساد الذي لا تخلو دولة منه في أيام الجشع والضبابية.

من أهم تحديات القرن ال 21 هو تأمين الإنتاج الغذائي الجيد لمليارات السكان الذين يتزايدون بشكل خاص في الدول الأكثر فقراً. لن تنجح الزراعة مجدداً إذا لم يتم الانتباه في نفس الوقت إلى الثروة المائية وإلى التقدم العلمي لزيادة الإنتاجية ورفع مستوى النوعية. التنبه إلى السلامة البيئية يعزز الإنتاج الزراعي وسلامته. المهم أن يستمر دعم البحث والتطوير الزراعي للجامعات ومراكز البحوث لأن الأموال العامة أصبحت قليلة ويتم البحث عن التمويل من الشركات.

مشكلة التمويل الخاص أنه يهدف إلى الربح وبالتالي نشاطات البحث والعلوم يمكن أن تكون مركزة على ما يفيد هذه الشركات مباشرة ولا يخدم الإنسان في أهم حاجاته. هذا يحصل أيضاً في الصحة حيث تنفق المليارات على الأدوية الباهظة وتترك أدوية الفقراء في سلات الإهمال. تقدر قيمة تمويل البحث الزراعي عالمياً ب 33 مليار دولار كان يأتي معظمها من الموازنات العامة. لا شك أن البحث الزراعي يستفيد أيضاً من التقدم الحاصل في العلوم الأخرى كالفيزياء والكيمياء والطب.

كورونا عززت الزراعة لأن الأزمة المالية العالمية وتدني الدخل الفردي والعائلي دفعا ملايين الأشخاص إلى العودة إلى الزراعة الخاصة أي إنتاج ما يحتاج إليه الإنسان لتخفيض الفاتورة الاستهلاكية. نشهد اليوم زراعة منزلية خاصة متنوعة وجيدة. انخفاض الدخل نتيجة كورونا سيدفع ب 130 مليون شخص إضافيين إلى الجوع قبل آخر هذه السنة تبعاً للأمم المتحدة. في السنوات الأربع الأخيرة، عانى العالم الصراعات السياسية الحادة ومشاكل التغيير المناخي وسوء الاستقرار الاقتصادي. نتج عن هذا الواقع ارتفاع عدد الجائعين من 80 مليون شخص إلى 135 مليوناً اليوم. إذا أضفنا إليهم تقديرات الأمم المتحدة، سيرتفع عدد الجائعين إلى 265 مليون شخص قبل نهاية 2021.

للعودة إلى الزراعة، لا بد ربما من ثورة قطاعية جديدة تستفيد من التقدم التقني والصحي الحاصل لرفع الإنتاجية وزيادة الإنتاج في الكمية كما التنوع والنوعية. الثورة الزراعية الأولى حصلت بين سنتي 1750 و1850 في بريطانيا وتميزت بتغير كبير في طبيعة المجتمع والعلاقات داخله. كانت الأرض مشاعات وكان كل مواطن يزرع ما يكفيه لكن الإنتاج لم يتطور لأن المزارع لم يكن يملك قطعة الأرض التي يزرعها. لم يكن العرض بمستوى الطلب وبالتالي وجب تغيير قواعد اللعبة مما ساهم في تعزيز القطاع وتشجيع المنتجين. 

* أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"