عادي

«الموريتاني».. الوجه العنصري لـ «جوانتانامو»

23:39 مساء
قراءة 5 دقائق
1

مارلين سلوم

كثرت الأفلام «الحية» خلال السنوات الأخيرة، وكثر الإحساس بأن السينما تواكب حياة الناس، وتبحث عن حكاياتهم، ومذكراتهم، لتنقلها إلى الشاشة مضخمة أحياناً، ومختصرة أحياناً أخرى. ومن خلف تلك الحكايات يولد أبطال من لحم ودم، من الناس العاديين الذين حملتهم الأقدار ليصبحوا تحت الأضواء، ويعرف العالم كله قصصهم ومعاناتهم وبطولاتهم. محمدو ولد صلاحي من هؤلاء الذين صاروا أبطالاً في السينما بعدما تحول كتابه «مذكرات جوانتانامو» إلى فيلم تعرضه صالات الإمارات والعالم تحت عنوان «الموريتاني»، وينال إعجاب الجمهور.

كيفن ماكدونالد (الحائز على «أوسكار» عام 1999 عن فيلمه الوثائقي «وان داي إن سبتمبر») هو مخرج متميز، استعان بالنجمين جودي فوستر، وبنديكت كومبرباتش، ليجعلهما بطلين «مساعدين»، فيما يسبقهما بخطوة في مساحة الدور والبطولة، طاهر رحيم (الجزائري الفرنسي) الذي حمل له هذا الفيلم فرصة الوقوف على أبواب «الأوسكار» بعد «جولدن جلوب»، وقدم له ما يحلم به كل ممثل شاب، وهو الوقوف أمام نجمين لهما جماهيرية واسعة عالمياً، وتحمّل مسؤولية فيلم يعتبر هو الشخصية الرئيسية فيه وكل الأحداث من أول مشهد إلى آخر لقطة تدور في فلكه.

يجذب فيلم «الموريتاني» الجمهور لأسباب عدة، أولها أنه يحكي قصة حقيقية أبطالها ما زالوا على قيد الحياة، وثانيها أنه مأخوذ عن قصة كتبها الموريتاني محمدو ولد صلاحي بنفسه عن السنوات ال14 التي أمضاها في سجن «جوانتانامو» مسجوناً بلا أي سبب، أو تهمة واضحة، فقط لمجرد الشك في أنه على علاقة بالتنظيم الإرهابي، و«ابن لادن»، شاهداً على التعذيب والترهيب، وكل المخالفات التي ارتكبتها السلطات الأمريكية بحق 779 سجيناً في المعتقل الشهير، لم تتم إدانة إلا ثمانية منهم، بينما اعتُقل الآخرون من دون أن تنسب إليهم أي تهمة، ولا تمت محاكمتهم. وولد صلاحي واحد من هؤلاء المعذبين، لكنه يختلف عنهم بجرأته على كتابة ما حصل معه بالتفاصيل.

تبدأ الأحداث من موريتانيا، بعد مرور شهرين على هجمات 11سبتمبر/ أيلول 2001 على برجي مركز التجارة العالمي في أمريكا. وخلال الاحتفال بفرح في أحد البيوت الموريتانية، تأتي رجال الشرطة وتطلب الشاب محمدو ولد صلاحي (طاهر رحيم)، ويأمرونه بمرافقتهم إلى المركز. يذهب بسلاسة مطمئناً والدته بأنه لم يفعل شيئاً، وسيعود إليها سريعاً، من دون أن يعلم أنها ستكون المرة الأخيرة التي يراها فيها. اتهم بالباطن، لا بالعلن، بأنه أحد المحركين الرئيسيين للهجمات على الرغم من عدم وجود دليل واضح ومباشر يؤكد ارتباطه بها.

النص الذي كتبه مايكل برونر ترافن وروري هينز وسهراب نوشيرفاني لتحويل العمل من روائي إلى سينمائي، نجح في نقاط، وأخفق في أخرى، حيث كانت تستدعي المواقف زيادة الحس الإنساني في الحوار، وكسب تعاطف الجمهور، واشمئزازه مما يحصل. يقفز الفيلم من عام 2001 إلى 2005 مباشرة، كأنه اختصار للوقت، خصوصاً أننا أمام فيلم يمتد ساعتين وتسع دقائق، لكن المخرج زاد من التنقل بين الأعوام، مع التركيز على التواريخ أكثر من الغوص في عمق التأثير النفسي والفعلي الذي تركته تحقيقات الجيش الأمريكي والمخابرات «إف بي آي» مع صلاحي.

ينطلق الفيلم من موريتانيا، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، حيث تم اعتقال ولد صلاحي (رحيم)، لكنه يقفز بعد ذلك إلى عام 2005، عندما وافقت نانسي هولاندر (فوستر) على إجبار الحكومة على اتهام المعتقل بأنه اقترف ذنباً ما. لماذا نقل الشاب من بلده إلى عدة دول لينتهي به المطاف في «جوانتانامو» بعيداً عن القواعد العسكرية الأمريكية، وبعيداً أيضاً عن عين القانون وسلطته؟ هل هو مذنب؟ وما التهمة الحقيقية التي سجن بسببها؟

 نانسي هولاندر محامية دفاع تتولى القضايا الصعبة، خصوصاً تلك التي تواجه فيها الحكومة الأمريكية. وتتولى قضية محمدو ولد صلاحي وتعمل برفقة مساعدة لها تدعى تيري (شايلين وودلي) تجيد التحدث بالفرنسية، لأنه لا يجيد الإنجليزية، إنما يتحدث العربية والفرنسية والألمانية. وتذهب نانسي وتيري لزيارة المتهم في السجن، والحصول على توكيل منه لرفع قضية على الحكومة، بل أكثر من ذلك، تطلب منه نانسي التوقيع من أجل مقاضاة الحكومة ووزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، والرئيس الأسبق جورج دبليو بوش. من هنا تعتبر قضية ولد صلاحي من أكثر القضايا شهرة وإثارة للقلق في أمريكا.

في المقابل، يطلب من المحامي في البحرية الأمريكية الكولونيل ستيوارت كوتش (كومبرباتش)، تولي الدفاع عن قضية الحكومة، فيسير على خط نانسي نفسه، إنما كل واحد منهما يمشي باتجاه، وكل منهما يكتشف مفاجآت تغيّر مجرى الأبحاث والأحداث. يطلب الملفات كاملة، فإذا به أمام أوراق كل ما كتب فيها غير مقنع، مجرد «شائعات» وأقاويل بلا مستندات حقيقية تدعمها، ولا أي دليل، أو إثبات واحد يمكن إدانة المتهم به. ثم يعرف ستيوارت أن المعلومات الحقيقية مخبأة في ملفات أخرى سرية لا يمكن الاطلاع عليها سوى من قبل جهاز المخابرات، لكنه يعرف كيف يتسلل من خلال أحد أصدقائه، ليكتشف عمق وبشاعة الجرائم التي ترتكبها حكومة بلده بحق هؤلاء الأبرياء.

المخرج يقدم هنا مشاهد قوية تجسد مراحل التعذيب التي تعرض لها المتهم، منها جلسات الكهرباء والضرب والتعرية والاعتداء والاغتصاب. استجواب يستمر 18 ساعة يومياً، وعلى مدى ثلاثة أعوام، تهديد بسجن أمه، وتعذيبها هي أيضاً في «جوانتانامو»، كي يتمكنوا من سحب اعتراف منه يقر فيه بأنه هو من خطط ووقف خلف العمليات الإرهابية في 11 سبتمبر/ أيلول. الأوراق التي تقرأها نانسي ما هي إلا اعترافات ولد صلاحي بالحقيقة كاملة وأرسلها لها، بينما المعلومات نفسها قرأها الكولونيل في ملفات سرية محفوظة لدى ال«أف بي آي» ولا يمكن الاطلاع عليها.

ومن أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها تأثيراً في الجمهور، تلك التي يسمح فيها لمحمدو ولد صلاحي بالمثول أمام المحكمة عبر الكاميرا التي تصوره بنقل مباشر من «جوانتانامو» إلى أمريكا، ليمثل أمام القاضي وبحضور محامي الدفاع عنه، ومحامي الدفاع عن الدولة في 14سبتمبر/ أيلول 2009 قال فيها إنه وثق بالعدالة الأمريكية، لكنه لم يتخيل أن يسجن ثماني سنوات بلا محاكمة، وأن تمارس عليه أمريكا تلك الألاعيب والضغوط والتخويف والتعذيب. وقال: «لم يغفر لي السجانون أخطاء لم أرتكبها، لكنني أسامحهم.. هذا ما يريده الله منا». وقوله إنه لا يحمل أي ضغينة تجاه من عذبوه، لأن، باللغة العربية، كما يقول «الحرية والتسامح يشكلان كلمة واحدة».

 لافت تقديم الفيلم صورة جميلة ونقية عن شاب مسلم غير أمريكي منفتح ومتسامح، بينما أمريكا تمارس العنصرية واللاإنسانية بشكل بشع، والقمع والرقابة على كل كلمة يكتبها أو يقولها المسجون.

أداء رحيم وفوستر وكومبرباتش كان على مستوى القضية السياسية والإنسانية التي هزت العالم، وكشفت عن جرائم بشعة ارتكبت بحق أبرياء. الإخراج أفضل من النص الذي تاه بسبب كثرة التفاصيل والمراحل والتواريخ، لكنه لم ينس التوقف عند بعض المحطات المهمة، مثل معاداة بعض الأمريكيين للمحامية نانسي وتلقيبها بمحامية الإرهابيين، وهي التي شجعت محمدو على تقديم مذكراته في كتاب كي يقرأ العالم الحقيقة، وحقق الكتاب نجاحاً كبيراً عام 2015 وتمت ترجمته إلى لغات عدة. ومن المشاهد المهمة أيضاً تركيز المخرج على ملامح الكولونيل والمحامية بينما يقرأ كل منهما في غرفة مغلقة الحقائق السرية لمراحل التعذيب التي تعرض لها المتهم، وشدة تأثرهما، حيث بكت المحامية، وقرر الكولونيل الانسحاب لشدة صدمته لما فعله بلده.

وكما تجري العادة في الأفلام المأخوذة عن قصص حقيقية، جاء ختام «الموريتاني» بلقطات من الواقع للشخصيات الحقيقية، ولد صلاحي ونانسي وتيري، مع صور للشخصيات الأخرى، وتفاصيل لما آلت إليه أحوال كل منهم، وكيف ربح القضية ضد الحكومة الأمريكية، لكن الرئيس السابق باراك أوباما استأنف الحكم ولذلك امتدت إقامة محمدو سبعة أعوام أخرى ليتم الإفراج عنه في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2016.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"