لنكبح جماح الجهل

00:10 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يتجول المؤرخ الأمريكي موريس بيرمان في كتابه «انحطاط الحضارة الأمريكية» بين العديد من الظواهر السلبية التي تؤكد أن قروناً من النهضة وإعمال العقل على وشك الغروب. لا يلتفت بيرمان كثيراً، في عمله الصادر عام 2000، إلى أي قضية تتعلق بالسياسة أو الاقتصاد أو الأفكار والفلسفات الكبرى؛ بل يركز على عدة مفاصل انتقدناها هنا في العالم العربي حتى أصبحت خبزاً يومياً لدى بعض الكتاب.

يشكو بيرمان مثلاً من أخطاء الصحف المتكررة في بعض أبيات قصائد لشعراء معروفين، وينتقد طالبة جامعية كتبت مقالاً لجريدة الكلية التي تدرس فيها، لا يتجاوز 250 كلمة وتضمن سبعة أخطاء نحوية، ويستمر في سخريته من التعليم الجامعي. فمعظم الخريجين في مختلف التخصصات لم يسمعوا بنصوص الأدب والفلسفة المهمة، ويتوقع أن تصبح اللغة الإنجليزية في المستقبل القريب غير مفهومة لأغلبية الأمريكيين، ويرى أننا لو حاكمنا الأمريكيين بمعايير الماضي، فسنجد أن 97% من الجامعيين لم يتلقوا تعليماً جاداً، أما أفلام مثل «فورست جامب» الحاصل على عدة جوائز أوسكار، فيمجد الجهل، حيث يتحول شخص معتوه إلى بطل، ويبشرنا بيرمان أيضاً بأن البقاء أمام التلفاز لأكثر من أربع ساعات يومياً سيحولنا إلى مجموعة من «المخابيل».

ركز بيرمان على التعليم والإعلام بمفهومه الواسع في علاقتهما بالحضارة، فأي خلل في هذه العلاقة سيؤدي إلى تلك الظواهر السلبية ومئات غيرها، وهي علاقة لا نلتفت إليها كثيراً. فنحن في العالم العربي عندما نناقش مخرجات التعليم نهتم بعدد الحاصلين على شهادات جامعية والمسجلين في الدراسات العليا، واحتياجات سوق العمل، بحيث يتحول في المحصلة النهائية إلى أرقام لا دلالة لها، أو إلى شأن فردي لا أهمية له في فكرة رسوخ الحضارة أو بناء الإنسان. 

التعليم ليس شأناً شخصياً، وعدم القدرة على التعبير باللغة الأم، كارثة تطال أساليب التفكير والسلوك، والأمر نفسه ينطبق على الإعلام، ولا يمكن في العالم العربي الركون إلى الراحة النفسية والكسل العقلي والقول إن التراجع في هذين الحقلين ظاهرة عالمية، ولا يمكن أيضاً طرح السؤال الأبدي: ما العمل؟ خاصة أن نتائج التكنولوجيا أضافت كثيراً من السلبيات إلى نقاد الإعلام الكلاسيكيين الذين كانوا يركزون على مفعول الصورة والاختيار بين المعلومات التي يتحكم فيها القائمون على الإعلام. 

الآن أصبح الإعلام تفاعلياً ولحظياً ويتابعه الملايين من أولئك الذين تربوا على أن التعليم مسألة تخصهم وحدهم، فإذا كانوا يعجزون في الماضي عن كتابة عربية سليمة، تشجعهم بيئة تحتفي باللغات الأجنبية، فلماذا نلومهم الآن على تلك اللغة التي لا شبيه لها في مواقع التواصل، سواء المكتوبة أو المنطوقة.

نحن نعيش في العالم ونتأثر به، هذه حقيقة، ولكن لا يمكن التحجج بذلك لتبرير أي تراجع حضاري أو ثقافي، فهناك مؤسسات قوية وتراث ممتد من التنوير، ونخب مؤثرة، وكلها عوامل تكبح جماح الجهل. أما هنا فالصورة غير مبشرة وتحتاج إلى وقفة ومراجعات شاملة وحقيقية قبل فوات الأوان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"