لبنان بين جمهوريتين

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

سؤال: لماذا هبّ اللبنانيون ونزلوا بقوّة إلى الساحات وقطعوا الشوارع، ظهر الثلاثاء الماضي، (2 مارس/ آذار 2020)؟ الجواب العام طغى على المتظاهرين أمام الشاشات: بلغ سعر الدولار 10000 ليرة لبنانيّة.

 طُرح سؤآل آخر: ولماذا لم تهبّوا عندما كان سعر الدولار بين ال9900 وال9950؟ لا أجوبة أبداً. أعتقد أنّ شعوراً صاعقاً أصاب الناس كأنّهم بلغوا الحافة العالية، وسيسقطون حتماً نحو «الجحيم». فكرة صحيحة وعفوية نفسيّة ندرجها بلعبة الأرقام ونشرحها في الجامعات في علوم «العلاقات العامّة» بحثاً عن الصور الذهنية اللا إيجابية والسلبيّة في أذهان الناس لتثبيتها أو لحذفها. نلاحظ مثالاً على ذلك، أنّ الأثمان التي يرفعها التجار غالباً في الواجهات، أو «المولات»، على بضاعاتهم المعروضة للبيع، لا تصل الحافات إلاّ نادراً. يسعّر الفستان النسائي ب1999 وليس ب2000 تداركاً لنقزة الزبائن والمارّة. هذا طعم نفسي جاذب وإغرائي تجاري معروف ربّما ومفهوم من الجميع. إذاً، لماذا استيقظ المتظاهرون في لبنان؟

 في العودة إلى هؤلاء أستعيد هبّة اللبنانيين الأولى (17/10/2019) ولا أقول إنّها استمرت حتى ال2021، كما يؤرخ، لأنها تقلبت بمسمياتها بين حراك، وثورة، واحتجاجات، وانتفاضات ترفع شعار «الربيع العربي» المصنوع والمستورد: «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي يرى البعض مغالياً بأنّه صناعة «ثورة الأرز» 2005، أو«كلّن يعني كلّن» الذي حشر بعض المسؤولين. لن أجازف بالقول إنّ الحراك أجهض، أو خرج، أو أخرج من صيغة الجماعة المتنوّعة التغييرية ووقع في أفخاخ الانقسامات الطائفية والمذهبية والحزبية ووباء «كوفيد»، وغيرها. 

هذا ظلم، لكنّ اللافت في حركة المتظاهرين، يوم الثلاثاء الماضي، دعواتهم العالية الممزوجة بالإحباط لحثّ كلّ الناس على ترك بيوتهم وشاشاتهم للنزول والمشاركة. هناك حنين راسخ واضح ومعلن ل17 أكتوبر. ولن أعمّر على تجدّد التظاهرات ولا على الإحباط، ولا تعنيني أسبابه الآن، بل أتصوّر وصول لبنان إلى حافّة أخطر بكثير ممّا أشرنا إليه وهي حافّة / شرفة الدم التي سبق ذكرها في المقال السابق. ويؤجّل التصور ربّما عبر جرعات إقليمية ودوليّة تقينا بلوغ الحافة الخطيرة. وعلينا الاعتراف بأنّنا نعالج مصطلحاً صعباً لطالما أرّق الجامعيين والباحثين هو الرأي العام من دون بلوغ تفكيكه، فهو خارج المفاهيم. من هو الرأي العام؟ كيف يؤلّف، ومن يحرّكه، أو يشلّه؟ وكيف ولماذا؟ لا أجوبة نهائية تؤطّر ظاهرة تاريخيّة نفسيّة اجتماعيّة شديدة التعقيد تفترض القوّة في التغيير، والميوعة الغريبة في الانحلال، إذ لا معايير لاستنساخه وتعميمه بقدر بقائه ظاهرة مسكونة بالعفوية والصناعة والتدريب والمصالح، لكن يستحيل سجنه في أربعة أطرٍ، أو جدران. 

ماذا حصل إذاً؟

يوم الاثنين1 مارس/ آذار 2020، خطف الرأي العام خبر صدور حكم القضاء الفرنسي بسجن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي لمدة 3 سنوات بتهم اتّفاقيات فساد واستغلال نفوذ (أضع خطّاً تحت كلمتي الفساد واستغلال النفوذ وهي كلمات تؤرّق اللبنانيين، وخطوطاً تحت كلمة سجن لأنّه حلم اللبنانيين)، في قضية «التنصت» التي يتخبّط فيها ساركوزي ذهاباً وإياباً في المحاكم، وأيضاً حبس المتّهمين قاضي التحقيق السابق جيلبير أزيبير، لأنّه أفشى معلومات سرّية لمحامي ساركوزي تييري هرتزوج الذي منع من ممارسة المحاماة 5 سنين. واتهم ساركوزي بدعم ترشيح أزيبير، وكان حينذاك مدعياً عاماً، للحصول على منصب مرموق في موناكو. وتعود أطوار قضية «التنصت» لعام 2014 في إطار التحقيق بتمويل ليبيا القذافي لحملة ساركوزي الرئاسية عام 2007 حيث استخدم خطاً هاتفياً سريّاً باسم «بول بيسموث»، اسم زميل له أيام الدراسة.

 قد لا يعرف الرأي العام أنّ مليونين و800 ألف تضجّ بها محرّكات المعلومات بحثاً عن ساركوزي الذي لا يعنيه الرأي العام بصفته ابناً لمهاجر مجري، وأم يونانية يهودية، تعمّد كاثوليكيّاً ونشأ في باريس وعمل في المحاماة من دون الذهاب إلى المدرسة الوطنية للإدارة، وقد صنّع اسمه ولمّعه وزيراً للداخليّة فرئيساً لطالما اعتبره جاك شيراك «متهوّراً ومنفوخاً بالعظمة».

 ماذا ينتظر ساركوزي؟ الاستئناف، أو وضع «إسوارة» برجله لسجنه في منزله، وينتظر17 مارس/ آذار لمحاكمته التي جعلت حياته «جحيماً» حسب قوله، لتمويل حملته الرئاسية 2012 من الزعيم الليبي معمّر القذّافي.

ماذا ينتظر اللبنانيون؟

 في عام 1973 قبِل وزير المالية جيسكار ديستان، الذي صار رئيساً لفرنسا (1974-1981) هدية ألماس من بوكاسا الأوّل إمبراطور إفريقيا الوسطى، تمّ كشفها صحفيّاً ومحاكمته في ال1979بعنوان «تلطيخ صورة الجمهورية»، وينتظراللبنانيون جمهورية جديدة تتذكّر مضامين الديمقراطية وتتمتّع بما يتوقون إليه وما يسمعونه عن الأنظمة التي يصون قضاؤها «صورة الجمهورية» من أسياد التلطيخ. ينتظرون قطعاً فصل السلطات التي رفعها مونتسكيو عناوين للقضاء المستقل والعادل وفتح السجون واعتبار الشعب مصدر السلطات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"