أشباح الحرب الباردة الجديدة

00:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

عندما أفلتت ملاسنات الرئيسين الأمريكي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، عن أي قيد معتاد في التخاطب بين رؤساء الدول تراقصت أشباح الحرب الباردة من جديد في التغطيات الصحفية الدولية.

 التاريخ لا يعيد نفسه والحقائق تختلف. هذه حقيقة رئيسية في أية قراءة موضوعية للمشاهد الهزلية، التي تابعها العالم مستغرباً ومشدوهاً.

 لا أمريكا هي ذات الإمبراطورية المتفردة بقوتها وثرائها، التي فرضت بعد الحرب العالمية الثانية قيادتها للعالم الغربي.. ولا روسيا هي الاتحاد السوفييتي، الذي تمكن من فرض سيطرته على أوروبا الشرقية ومناطق واسعة من العالم حين انقسم العالم أيديولوجياً واستراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً إلى معسكرين كبيرين.

 بانهيار جدار برلين في 9 نوفمبر عام 1989 انتهت الحرب الباردة وتقوض الاتحاد السوفييتي بعده، انفردت القوة الأمريكية بالنظام الدولي وحدها ونشأت أوضاع خلل في التوازنات التي تحكم العلاقات الدولية دفع ثمنها فادحاً في العالم العربي.

 بإيحاء الصور بدت ملاسنات «بايدن» و«بوتين» كأنها استعارة لبعض أجواء الحرب الباردة، فالأول يصف الثاني بأنه «قاتل» و«بلا روح» على خلفية تقرير استخباراتي أمريكي جديد ينسب إليه السماح بالتدخل في انتخابات الرئاسة الأمريكية، التي جرت الخريف الماضي.. والثاني يوحي بأن الأول فقد سيطرته على عباراته بحكم التقدم في السن مدعياً أنه يتمنى له الصحة، على الرغم من أنه هو نفسه لم يعد شاباً بعدد السنين، قبل أن يزيد ب«أننا عادة نرى ما بأنفسنا في الآخرين، ونظن أنهم على ما نحن عليه».

 لم تكن الأزمة بذاتها مفاجأة بقدر ما كانت في الطريقة، التي جرت بها والانحدار الذي وصلت إليه.

 على مدى ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، دأب الديمقراطيون في مجلس النواب بأغلبيتهم النسبية على توجيه الاتهامات إلى روسيا بالتدخل في الانتخابات التي صعدت به عام 2016، جرت مساءلات مطولة استهدفت عزله غير أنه أفلت بأغلبية جمهورية محدودة في مجلس الشيوخ، الذي تحول إلى هيئة محاكمة.

 نفس الاتهامات تكررت بتقرير استخباراتي جديد عن انتخابات 2020، التي كسبها «بايدن» وشكك في نزاهتها «ترامب»، وشهدت آخر فصولها اقتحام أنصار الأخير مبنى الكونجرس الأمريكي في مشهد مأساوي شكك في الديمقراطية الأمريكية.

 باليقين فإن هذا التقرير الاستخباراتي طلبه الرئيس الأمريكي نفسه لأهداف سياسية عملت في وقت واحد على المضي قدماً في مطاردة شبح عودة الرئيس السابق للبيت الأبيض إذا ما ترشح في انتخابات 2024 وإعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في عصر جديد باستدعاء العدو الروسي إلى مقدمة المشهد، باستعارة «أزمان القيادة والهيبة»، التي توفرت للولايات المتحدة في سنوات الحرب الباردة.

 في تلك السنوات جرت حروب بالوكالة في أماكن عدة بالعالم وأفضى التوازن النووي إلى نوع من الردع المتبادل وكانت الحروب الاستخباراتية والدعائية على رأس العناوين الرئيسية في ساحات الصراع.

 بدت القطيعة شبه كاملة. لم يعد ذلك ممكناً الآن، لا موسكو بوارد أن تبني حول نفسها ستاراً حديدياً جديداً في عالم السماوات المفتوحة وتدفق المعلومات وتداخل المصالح الاقتصادية.. ولا بطاقة واشنطن أن تعلن حرباً تجارية وسياسية ودعائية على روسيا قادرة على حشد الأنصار في العالم الغربي، الذي كانت تقوده بلا منازع.

 أقصى ما يملكه «بايدن»، الآن فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، كطلقات إنذار محدودة لا تتجاوز المناوشات لتحديد مراكز المتصارعين في عالم جديد يوشك أن يولد من تحت أطلال جائحة «كورونا».

 استدعاء «العدو الروسي» من ذاكرة التاريخ يصادم الحقائق المستجدة، فالخطر الأول الذي يتهدد المصالح الأمريكية يأتي من الشرق؛ حيث التنين الصيني، المرجح أن يتساوى ناتجه القومي الإجمالي مع الولايات المتحدة خلال هذا العقد.

 إذا ما حدث تحالف بين موسكو وبكين، وهو سيناريو مرجح للغاية، فإن المعادلات الدولية قد تميل لغير صالح التحالف الغربي في عالم ما بعد «كورونا».

 الملاسنات تمددت إلى التاريخ بإشارة «بوتين» إلى طبيعة نشأة الولايات المتحدة، حين ارتكب المستعمرون الأوروبيون الذين وفدوا إلى الأراضي الجديدة مذابح جماعية بحق السكان الأصليين في أمريكا وإلى أن الولايات المتحدة كانت الدولة الوحيدة التي استخدمت سلاحاً نووياً ضد دولة أخرى.

ثم وصل الهزل السياسي إلى حد اقتراح «بوتين» إجراء مناظرة مع «بايدن» عبر وسائل التواصل الحديثة يشهدها ويحكم عليها العالم بأسره.

لا «بايدن» سيمضي في التصعيد إلى أكثر من العقوبات واستثارة ذكريات الحرب الباردة حين كانت لأمريكا الكلمة الأولى في المعادلات الدولية.

ولا «بوتين» بوارد قطع العلاقات مع الولايات المتحدة، فقد أكد جازماً رغبة بلاده في «الإبقاء على العلاقات النحو الذي تراه».

الملاسنات في جوهرها تعبير عن أوضاع قلق وتأزم يستبق نظاماً دولياً جديداً يوشك أن يولد من تحت ضربات جائحة «كورونا».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"