خير الدين حسيب.. الغائب الحاضر

00:29 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الحسين شعبان

رحل خير الدين حسيب بهدوء واطمئنان كاملين.. ترجل هذا المفكر الاستثنائي الذي ربط الفكر بالممارسة، والحلم بالواقع، بعد أن ظل يحمل صليب العمل العربي المشترك والوحدة العربية التي أسس لها مركزاً للدراسات منذ عام 1975 وحوّلها من فكرة فنتازية أقرب إلى اليوتوبيا إلى فكرة عملية وعلمية، عبر دراسات وأبحاث وتجارب وحقول اختصاصات ومعرفة ونقد.

وكانت «دار الندوة» في بيروت قد أقامت له حفلاً تكريمياً شارك فيه (عبر الفيديو) عشرات من المثقفين والمفكرين والممارسين العرب من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه، افتتحه بشارة مرهج، وكم كان صعباً عليّ أن أحضر حفلاً مهيباً، دون أن يكون خير الدين حسيب نفسه حاضراً؛ بل إنه كعادته سيسبقنا إلى الاحتفال وغالباً ما يكون أول المتحدثين، وربما سيدير هذا الاحتفال، فقد كان هو الذي يجمعنا مثلما جمعنا لوداعه، وهو الذي سيجمعنا في المستقبل أيضاً، لأنه ما زال موجوداً بيننا.

 عدد من الصفات التي امتاز بها حسيب ليكون بهذه المكانة، فقد كان شخصاً استثنائياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، في الفكر والعمل والإدارة، وفي الحلم والأمل والإرادة، وبقدر ما كان واقعياً، فقد كان مستقبلياً أي رؤيوياً، إضافة إلى رياديته، فهو مبادر ومنتج وصاحب مشاريع حالمة في الوقت نفسه، ومنها مشروعه الباذخ الذي اشتغل عليه لعقدين من الزمان مثّل خلاصة تجربته واستشرافه للمستقبل وأعني بذلك «المشروع النهضوي العربي» الذي قام على ستة أركان متشابكة ومتداخلة ومتراكبة هي: الوحدة العربية، والتحرر السياسي، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري والديمقراطية.

 وعمل حسيب على استقلالية المؤسسات العديدة التي أدارها رافعاً شعار «الخبز مع الكرامة» ونجح إلى حدود معينة بوضع مسافة بينها وبين الجهات الرسمية، الأمر الذي جنبه العديد من المنزلقات متخذاً من العقلانية وتنوع المصادر أساساً في توجهه، لاسيما في الدوائر الأساسية التي اشتغل عليها، وفي القلب منها الدائرة العروبية التي استطاع فيها ربط مثقفي الأمة العربية من بلدان المشرق إلى بلدان المغرب، دون إهمال الدائرة الإسلامية، فقد بذل جهداً خاصاً لبحث العلاقات العربية- الإيرانية، والعلاقات العربية - التركية، مخصصاً حيزاً من دراسات المركز ومجلته المعمّرة «المستقبل العربي» التي احتفلت نهاية العام الماضي بصدور العدد 500 منها دون توقف أو تأخير، وذلك بهدف الوصول إلى صداقات محتملة وليس عداوات دائمة، الأمر الذي يحتاج إلى مشروع عربي ناهض بوصلته المستمرة تأكيد احترام مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، لاسيما في الموقف من القضية الفلسطينية التي تشكّل ركناً محورياً من فكرة العروبة الثقافية الجامعة كرابطة وجدانية وحقوقية، وصولاً للوحدة المنشودة.

 أما الدائرة الإنسانية، فإن شخصية حسيب ذات الأبعاد الجامعة مثّلت حضوراً لما قصده إدوارد سعيد بالمثقف الكوني عازفاً سيمفونية الخلاص الإنساني في سماء الأمة العربية مثل شلال ضوء منبعثاً من نخيل العراق باسطاً شعاعه على غابات الزيتون في شمال إفريقيا، متطلعاً للتضامن مع شعوب العالم كافة.

 إذا كان الموت يتجوّل بيننا مثل ظلنا ويترصدنا مثل ذئب مخادع في ظل اجتياح وباء كورونا، إلا أن موت الكبار له نكهة حزن إضافية لأنهم يتركون لنا رؤوس أقلام لمشاريع لم تنجز وموتهم بقدر ما يُحزننا فإنه يُحرجنا، لأنه يضع على عاتقنا مسؤولية إنجاز مشاريع المستقبل التي خططوا لها، وكانت آخر رسالة وصلتني من حسيب ( 13 -1 2021) وعقبها حديث هاتفي ولقاء هو طلبه إنجاز كتاب عن «مأسسة العمل العربي الفكري المشترك».

وبقدر ما تعرّض حسيب إلى الأذى والإساءة والتعذيب، لكنه مارس رياضة نفسية مع نفسه على الرغم من عمق جروحه وآلامه، وبذلك انتصر على جلاديه مبتعداً عن كل ما له علاقة بالثأر أو الانتقام أو الكراهية أو الكيدية، وبالطبع حين يأخذ المرء بثأره يتساوى مع عدوه، لكن حين يسامحه يكون أفضل منه، ف «حتى الشيطان يخجل من الحقيقة»، على حد تعبير شكسبير.

وإذا كانت المعرفة قوة بمعنى «سلطة» حسب تعبير الفيلسوف فرنسيس بيكون، فإن قوة مشروع حسيب كانت ثقافية وفكرية بامتياز، وهو مشروع قام على العلم في مواجهة التبعية والتخلف والاستغلال، وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى حامل اجتماعي كان حسيب يُمثّل ضميراً فيه حتى وإن كان فرداً، لكنه أقرب إلى عقل مجموع، وحس مطبوع، وشرع مسموع.

 وإذا كان حسيب صارماً لدرجة القسوة مع نفسه، فإنه كان يريد من الآخرين الالتزام بذات الضوابط، وهو الأمر الذي اختلف معه كثيرون، وبقدر ما كانت له خصومات عدة بسبب الاجتهادات في الرؤى وأساليب العمل، فلم يكن له عدو واحد؛ بل إن الجميع يقدرون سجاياه ومناقبه.

 رحل حسيب عن دنيانا، ويقيناً أنه رحل إلى المستقبل؛ حيث لا تزال شعلة الفكر وهّاجة وقناديلها تزداد اتقاداً، لذلك لا نقول وداعاً يا خير الدين حسيب؛ بل نقول اشتياقاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"