اللقاح بعد الوباء ولعبة الساسة

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

أصوات عدة طالبت بعدم تسييس الوباء، أطباء وعلماء حذروا من عواقب الخطوة، ومثقفون وحكماء نبهوا أن التسييس لن يخلف سوى صراعات في عالم لا تنقصه صراعات. الساسة ذاتهم أبدوا خشيتهم من استغلال منافسيهم للوباء سياسياً، وسارع الكثيرون منهم إلى توظيفه؛ أملاً في أن يجنوا من ورائه أرضيات تدعمهم؛ أما بعض الدول فقد أشعلت النيران، وتبادلت الاتهامات بشأن منشأ الوباء وعلاجه ولقاحاته وتحوراته منذ اكتشافه وحتى اليوم والغد وبعد الغد، ووصل الأمر بدولة كبرى مثل الصين إلى مطالبة مجلس الأمن بعدم تسييس «كورونا» بعد أن كاد يحاصرها به الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. 

 ما بين ظهور الفيروس وحرب اللقاحات التي نعيش فصولها من حين إلى آخر، عاش الناس حالة من التشتت، الذي أفرزه تسييس الوباء، فمنذ انطلاقه من ووهان في الصين كما يقال، وحتى اليوم لم يتوقف تشكيك بعض الساسة والرؤساء في وجوده، والنتيجة شكوك لدى بعض فئات الرأي العام العالمي، والتي عبرت عن ذلك بتظاهرات وغضب ورفض للإجراءات الاحترازية وللإغلاق وأيضاً للقاح، والنتيجة حدوث ارتفاع جنوني في أعداد المصابين والوفيات حول العالم. 

 ومنذ التوصل إلى اللقاح وحملات التشكيك مستمرة عالمياً، ما دفع البعض لاتخاذ موقف مضاد له، ووصل الأمر إلى استغلال اللقاح سياسياً في الصراعات الإقليمية والدولية، لدرجة أن أثيرت أقاويل عن كل من اللقاحات الثمانية التي أقرتها منظمة الصحة العالمية. 

نال اللقاح البريطاني السويدي استرازينكا/ أكسفورد نصيب الأسد من الاستغلال السياسي، وتم توظيفه في الصراع الأوروبي البريطاني بعد خروج بريطانيا من تحت عباءة القارة، ومنذ بداية هذا العام والعلاقة بين الطرفين في شد وجذب؛ بل ويكاد اللقاح أن يشعل حرباً أوروبية أوروبية، وأن يفسد علاقات مودة فرضتها الجغرافيا وأكدها التاريخ. 

 خلال الأسبوع الماضي، وما بين عشية وضحاها، أعلنت 15 دولة أوروبية وقف التلقيح باسترازينكا، بدعوى أنه يتسبب في تجلط الدم وأحياناً الوفاة، والغريب أن الدول التي ترفع راية البحث العلمي أصدرت قرارها العشوائي بناءً على معلومات غير مؤكدة، وهو ما دفع منظمة الصحة العالمية والوكالة الأوروبية للأدوية للتحرك لتبرئة اللقاح من التهمة المفبركة، وتأكيد أمانه، وأن إيجابياته تفوق كثيراً سلبياته، لترجع الدول الأوروبية وتعلن الإفراج عنه والسماح لمواطنيها بتلقيه بلا خوف. 

 الغريب أن ما بين قراري المنع والسماح بالكاد أيام؛ بل ساعات في بعض الدول، ولكن هذه المدة القليلة أثارت خوفاً وقلقاً تجاوز مساحة أوروبا الموبوءة، وتمدد على مساحة الكون، وخلق المنع شكوكاً لا يمكن يتجاوزها، وكأن الخوف والرعب الذي خلقه الوباء في ذاته لا يكفي، ولا يرضي غرور أولئك الساسة الذين لا يفوتون كارثة ولا مصيبة ولا شاردة ولا واردة إلا ويحاولون توظيفها سياسياً.

 الأزمة لم تتوقف عند المنع ثم السماح، ولكنها تجاوزت ذلك إلى تهديد ووعيد ما بين بروكسل ولندن، فبعد ساعات من فك أسر اللقاح في الدول المقاطعة، هددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين بوقف صادرات لقاحات أسترازينيكا إذا لم يتلق الاتحاد الأوروبي شحناته أولاً، في تصعيد للخلاف بشأن تأخر عمليات تسليم اللقاحات المتعاقد عليها قبل نهاية الربع الأول (بعد 3 أيام)، متهمة الشركة بالانحياز لبريطانيا التي تجاوزت فعلياً تطعيم نصف مواطنيها البالغين، في حين أن باقي الدول تعاني بطء التطعيم وزحف الموجة الثالثة ما دفع العديد منها للعودة للإغلاق مرة ثالثة. بريطانيا لم تصمت أمام التهديد الأوروبي وردت على لسان وزير دفاعها محذراً من أن ذلك سيؤدي إلى نتائج عكسية وسيضر بسمعة الاتحاد الأوروبي. 

 الوباء حقيقة مؤلمة ومزعجة للعالم كله، وكل الدراسات والأبحاث ولجان تقصي الحقائق تؤكد أنه ليس مُصنعاً وليس نتاج مؤامرة ولكن سلوكيات الإنسان المؤذية هي التي أفرزته، كما تؤكد كل الحقائق أن اللقاحات هي الأمل الوحيد للخلاص من فيروس كورونا اللعين أو على الأقل هي الوسيلة للنجاة، كما أن إخراج الساسة للوباء من دائرة مصالحهم وصراعاتهم وترك أمره للعلماء والأطباء، قد يخفف من خوف الناس وتشتتهم، ومن حدة القلق التي تسود العالم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"