صناعة السلام

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبدالله السويجي

لا توجد حروب دائمة ولا يوجد سلام دائم، لكن السلام هو القاعدة، والحرب هي الاستثناء، وقد يخوض البعض حرباً من أجل السلام، والبعض ينتهز فرصة السلام للاستعداد للحرب، هذه هي العلاقة بين المجموعات البشرية منذ فجر التاريخ، لكنها في عصرنا الحالي تحتاج البشرية إلى السلام أكثر من الحرب لأسباب كثيرة.

 في السابق كان الإنسان يعتمد على قوة عضلاته في مواجهة أعدائه، ثم اخترع الآلات الحادة البدائية فزاد القتل، واخترع بعد ذلك السيوف والحراب والسهام فتضاعف القتل وازدادت الحروب شراسة وتوحشاً، وحين اخترع «ألفرد نوبل» البارود كان فاتحة لمزيد من القتل السهل، ولهذا كفّر عن (جريمة اختراعاته) بجائزة نوبل العالمية، التي تمنح للعلماء والأطباء والمهندسين والأدباء الذين يساهمون في صناعة السلام. ورغم الهدف النبيل لجائزته، فإن العالم قد انطلق في اختراعاته في مجالات الأسلحة التدميرية، ولم يتوقف عند البارود والألغام والقذائف، بل توصل إلى القنبلة النووية المدمرة، ثم القنبلة الهيدروجينية الأكثر تدميراً للبشرية، ثم الأسلحة الجرثومية التي تقتل البشر وتبقي على الحجر، وبات عالمنا اليوم غابة من الأسلحة الفتاكة، حتى أنه إذا ما شبّت حرب كونية ثالثة فستكون كفيلة بالقضاء على نصف البشرية على أقل تقدير.

 صناعة السلام العالمي أصعب من الدخول في حروب مدمرة، لأنها تتطلب عقولاً متفتحة، وقلوباً متسامحة، وإرادة خيّرة، تعمل من أجل صالح البشرية وسلامها، وهذه ليست متوفرة الآن، ولن تتوفر على المدى المنظور، نظراً لحب الإنسان للتوسّع والسيطرة بذرائع شتّى. فالعالم مكون من أعراق وأجناس وأديان مختلفة، وكل فئة تعتقد أنها على حق، والآخر على ضلالة، وكل فئة تتصوّر أن لونها هو الذي يجب أن يسود، وكل فئة تتباهى بنقاء دمها وسلالتها، فإذا عمَّ التطرّف لدى كل الفئات، سيعم التناحر والصراع، وسيبقى إلى أبد الآبدين، لهذا فإن السلام ينبثق من عمق كل فئة، بتعزيز الفكر السامي المنفتح على الآخر، والمعتقَد المتسامح المؤمن باختيارات الآخر، وبالقناعة التي تؤمن بتوزيع الطبيعة لثرواتها، وأي صراع بعد هذا هو صراع ضد الطبيعة، لأنها مؤسسة على التنوّع والاختلاف والنسبية، ولا يمكن خلخلة النظام الطبيعي عن طريق التغيير الجغرافي وتبديل البشر والمعتقدات.

 وعلى الرغم من حرص القوانين العالمية والمنظمات الكونية ذات الصلة بالإنسانية، على إيجاد دساتير وقوانين تعترف بالآخر وحقه في تقرير مصيره، وحقه في التحكم بثرواته الطبيعية، فإنها بقيت عاجزة عن توطيد أسس السلام بين شعوب الأرض، ولهذا الفشل أسبابه الجوهرية، وأهمها أن الإيمان بحق الآخر في الحياة واختيار أسلوب معيشته وحقه في المعتقد احتكرته النخبة، أي احتكره المفكرون والأدباء والمبدعون الإنسانيون، وبقي في دائرتهم الضيّقة، ولم يصل إلى صانعي القرار الرئيسيين، وهؤلاء هو التجار العالميون المتحكمون بالاقتصاد العلمي، الذين يتعاملون بالأرقام فقط حتى تحول البشر في منظورهم إلى أرقام أيضاً.

 وتلك الفئة، ولا سيما أصحاب الشركات العابرة للقارات، المتحكمون بالإنتاج الغذائي العالمي وصناعة الأسلحة وتجارة الذهب والبترول، هؤلاء هم الذين يرفعون قيمة السلع ويخفضونها، ويرفعون قيمة العملة والذهب والأسهم ويخفضونها، ولا يترددون في افتعال حروب هنا وهناك لخدمة مصالحهم الخاصة، والبعض يطلق على هؤلاء اسم الحكومة الخفية للعالم، والبعض يعتبر هذه التسمية خرافة.

 وبغض النظر عمّن يتحكم بالحرب والسلام، نرى أن إعداد شعوب واعية ومؤمنة بقيم التسامح وحق الآخر في الحياة والاختيار، سيشكل ضمانة عالمية وإنسانية لوقف كل أشكال اعتداء الإنسان على أخيه، ووقف الحروب التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من الخراب والدماء، وهذا من صميم عمل المفكرين الاستراتيجيين وصانعي القرارات في المجالات كافة. وهنا نؤكد دور التعليم النوعي الذي لا يغرس التشنج العقائدي والعرقي والعنصري والديني. ومن دون هذه الاستراتيجية التعليمية التربوية العالمية، سيبقى الإنسان كما هو الآن، ينتقل من حرب إلى أخرى، ومن معاهدة سلام إلى أخرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"