مفاتيح الكتابة.. أوكسجين العصر

01:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

ولو متأخرة، أصبحت «العربية» في الشاشات، وصارت كغيرها لغة سائلة مائعة تصعب حمايتها. وهنا أجدني متجاوزاً «ثقافة»؛ بل «حضارة» النقر فوق رأس الفأرة للبحث في مخازن المعرفة، مذكّراً القارئ ببدايات السهم الزئبقي الدائم الانزلاق بين أصابعنا بحثاً عن اللغات في الشاشات.

 الحقيقة أن الفكر الإغريقي توقف في معالجته لمعضلة الزمان معتبراً إياها نبعاً للحركة الدائمة. هكذا انبثقت صورة السهم رمزاً حاداً يشبه الرمح ويشير إلى المستقبل الجاذب لدول ومدن العالم وبينها دبي بشكل لافت ومميز.

 تركّز السهم أولاً في عقارب الساعات صديقة الزمان بدورانه وإيقاعاته الاصطلاحية. وكان أرسطو أول القائلين بوحدة قياس الزمان «قبل» و«بعد» لأن رأس السهم هو المؤشر والمحدد للزمن المنقضي أوالقادم.

 يذكّرنا الزمن المنقضي بتلك الساعة الرملية في الشاشات الأولى؛ إذ لم يكن سهلاً معها ضبط حركية هذا الزمان. كان النقر على رأس الفأرة بهدف ضبط السهم شبيهاً بالإمساك بالماء وصعب التحكّم به. وعندما «يُثمر» النقر، كنا نرى إلى جانب السهم فوق الشاشة ساعة رملية صغيرة عرفت ببكرة المعرفة التي لا يوثقها عائق في تنقل الرمل من زاوية إلى أخرى. والبكرة في اللغة العربية جمعها بكر وبكرات وبكّر تعني تقدم وأسرع، وهي آلة الدولاب الذي أعتبره قمة الاختراع البشري الأول الذي سهّل إعمارنا للدنيا وللحضارات. في وسط البكرة مَحَزّ يمر عليه حبل لرفع الأثقال وحطها، وبواسطة البكرة تشارك الإمارات مثلاً الحضارات الفضائية لتصل معها إلى المريخ في زمن ما زال بعض العرب يردد: «والبكرات شرهن الصائمة» أي تلك التي لا تدور. البكرة الإلكترونية فترة زمنية كانت تحققها التقنيات لاستدعاءات الصور والنصوص تكرّ من الساعة الرملية وفق سرعات متنوعة، لتحقق سلطات الفأرة وأجيالاً متباعدة متصلة قليلة الكلام. 

صحيح أن الإنسان حقق استطالات جسده؛ إذ خلقنا على صورته ومثاله ومنحنا قيادة العقل واليدين؛ إذ لولاهما لما كانت تنفعنا ميزة النطق خلافاً للكائنات الأخرى، والأصح أن اختراع «الدولاب» جعلنا نطوّل قوائمنا فنتمكن من الأرض ثلث الدنيا اليابسة ونتجاوزها فنتمكن من البحار والمحيطات ونطوّع المياه ثلثي الدنيا، وها نحن وأنتم قاعدون مع العالم معه تشاركونه عصر الفضاء؛ بل تحققون معه أيضاً لذة التمكّن العلمي من تطويع عناصر تكوين الإنسان الأربعة أعني التراب والماء والهواء والنار الباقية لعبة البشرية في تمايزها وافتراقها حضارياً بين أن تكون خيراً أوشراً من بلد لآخر وقائد وآخر وفي خيار مفتوح بين اللحاق بالغرائز أوبالعقول.

 نجح الإنسان بعد ذلك في تحقيق استطالات حواسه الخمس فتمكنت العين من المشهد البعيد والآذن من الصوت البعيد. ثم عقد القران بين العين والأذن فصارت الدنيا شاشات والعين بيضة تتسع مع الأذن للدنيا. صحيح أن استطالة الذوق بقيت خيالاً لكنه ممكن عبر الصور والألوان المثيرة، وصحيح أن حاسة الشم بقيت تتعثّر إلا بحدودها الدنيا عبر العطور، لكنّ المدهش أن الإنسان يسعى اليوم لتطويل حاسة اللمس عن بعد عبر لوحات المفاتيح الإلكترونية ورموز الاتصال الجديدة بين البشر على اختلاف مذاهبهم وأماكنهم وتنوعهم.

نقرأ اليوم بأن «حاسوبي قد ابتسم لي»، تحقيقاً للفأرة الضاحكة العاطفية. علم جديد لربما قد تشارك دبي أو هي فيه، لست أدري، وهذا ليس خيالاً؛ بل علم يرفع التحديات السلطوية التي تتمتع بها تقنيات الاتصال، ويهتم بمعرفة حالات المبحر في الشاشات من الناحية العاطفية، ومدى استجاباته لما يشاهده صامتاً أو جاهداً بطيئاً عند استعماله اللغة نطقاً أو كتابة. تقيس الفئران العاطفية المزودة بلواقط مع كل نقرة ذبذبات المتصل لتحديد مدى الإرهاق والحالة النفسية المعقدة أو الارتياح الذي يعيشه المبحر.

 كانت روزالين بيكار، مديرة مختبر «المعلوماتية العاطفية» في أمريكا في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا رائدة من قاد هذه الفكرة التي تسمح عن طريق الصوت والصورة معرفة حالتنا الفيزيائية في أثناء الاتصال، فتنبه الدماغ إلى اتخاذ حذره لتغيير الحالة العصبية التي يكون فيها المتصل أو ضبطها. وتساعده كذلك على التحكم بما يشحن به زمنه المعرفي السريع. أصبحت هذه الأشياء أجهزة متناهية الصغر تُسمى handy 21 تيمناً بالقرن الواحد والعشرين، يمكن إدخالها في الأجهزة الاتصالية كلها، لتنفذ الأوامر الصوتية من دون الحاجة إلى لوحات المفاتيح التي يمكنها أن تحصي الهواء الذي نتنشقه، ولهذا السبب منحت هذه الشبكة الدقيقة اسم أوكسجين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"