جرائم النشر.. تزوير الكتب نموذجاً

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

أصدرت كتابي الرواية «رحلة الزمان والمكان» منذ فترة وجيزة، ولكنني اكتشفت أن مذكراتي تلك قد جرت إعادة طبعها بطرق غير مشروعة، حيث استغل لصوص الكتب رواج كتابي في الأسواق فطبعوا منه نسخاً، وإن كان يسهل على من يدقق فيها أن يكتشف أنها نسخ مزورة من شكل الطباعة، ودرجة ظلال الصور، على الرغم من الإتقان الشديد في إعداد الغلاف رغم صعوبته، ولقد اتصل بي الناشر محمد رشاد صاحب «الدار المصرية اللبنانية»، رئيس اتحاد الناشرين العرب وهو الذي نشر كتابي المشار إليه، وبدأ الرجل صاحب الخبرة الطويلة يشكو ما آلت إليه صناعة النشر من اختراقات وألاعيب، وكيف أن معظم الكتب خصوصاً تلك الرائجة منها، تجري إعادة طبعها بطرق غير مشروعة وفي الظلام لتنتشر في الأسواق، وتسبب خسائر فادحة للناشرين أولًا والمؤلفين ثانياً.

 وأنا أتذكر أن الناشر المهندس إبراهيم المعلم صاحب «دار الشروق»، كان يشكو من الأمر ذاته منذ تسعينات القرن الماضي، بما يعني أن الظاهرة ليست جديدة، ولكنها استفحلت مؤخراً حتى نجد أن للكتاب عشرات الأسعار المختلفة، وفقاً لجهة التزوير أو مستوى الأرباح التي يحددها المتلاعبون بالكتاب المطبوع الذي لازال يجلس على العرش على الرغم من محاولات إزاحته من وسائل التواصل الجديدة، ولكنه يبقى مع ذلك خير جليس في الزمان، وأنا ممن يؤمنون بأن الكتاب الورقي المطبوع لن يختفي أبداً؛ لأن عمره يمتد منذ اختراع آلة الطباعة عام 1440 ميلادياً على يد يوحنا جوتنبرج، لننتقل من مرحلة المخطوط بخط اليد إلى الكتاب المطبوع بالوسائل الحديثة. 

وأتذكر أنني قرأت للدكتور جمال العطيفي، رحمه الله، دراسات في جرائم النشر وتزوير الكتب منذ أكثر من أربعة عقود، كما أن المحامي اللامع الدكتور شوقي السيد، أطال الله في عمره، هو ركن ركين في قضايا النشر وجرائم الاعتداء على الكلمة المطبوعة، ولعله أقدر مني ومن غيري في فهم سراديب تلك الجرائم والأساليب المقترحة لعلاجها، ويهمني أن أرصد هنا الآثار السلبية لتزوير الكتب وأهمها ما يلي:

أولاً: إن صناعة النشر مهددة بالانهيار والتوقف نتيجة ازدياد تفشي ظاهرة تزوير الكتب ورقياً، مع ازدياد أعداد القراصنة الذين يسرقون حقوق المؤلف والناشر في وضح النهار، فالتزوير تسبب في خسائر فادحة لعشرات من دور النشر، بما أدى إلى إغلاق بعضها بسبب خسائرها المتزايدة؛ لأنها لا تستطيع  والحال كذلك  الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الدولة من ضرائب وتأمينات وغيرها، فضلًا عن توفير المصروفات الأساسية والمرتبات اللازمة لاستمرار نشاطها، بما يعود بالخسارة على الاقتصاد القومي في النهاية.

ثانياً: برزت ظاهرة جديدة في السنوات الأخيرة؛ إذ إن معظم إصدارات الناشرين يتم تزويرها إلكترونياً، حيث يتم تحميلها بالصيغ الفنية الحديثة المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات، ثم إتاحتها للجمهور عامة، على الرغم من أن تلك الكتب تتمتع بالحماية القانونية، وبذلك يتم الاعتداء على عشرات الآلاف من الكتب المحمية قانونياً، دون إذن من مؤلفيها أو ناشريها.

ثالثاً: تؤدي ظاهرة التزوير إلى إهدار أموال الدولة نتيجة ضياع حقوقها الضريبية، وتخفيض القيمة المضافة للناتج القومي، خصوصاً عندما يتوقف الناشرون عن الإنتاج ويغلقون منشآتهم، كما تؤدي ظاهرة التزوير إلى هدم صناعة التأليف والنشر، بما يستبعد الكتاب العربي ويُخلي الساحة للناشر الأجنبي، إلى جانب انكماش حركة النشر باللغة العربية، وتراجع الدور القومي وإسهام العرب في حضارة العصر، من خلال عدد العناوين السنوية التي تصدرها المطابع العربية.

رابعاً: لا تتوقف الآثار السلبية عند الذي ذكرناه؛ إذ إن الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية يؤدي على المستوى الدولي إلى وقوع البلاد تحت طائلة العقوبات الدولية؛ لأن المزورين لم يكتفوا بتزوير وتقليد الكتب المصرية والعربية ورقياً وإلكترونياً؛ بل تعدوا ذلك إلى دور النشر الأجنبية.

خامساً: لا يخفى علينا أن النشر له أبعاد ثلاثية، فهو صناعة وتجارة وثقافة، ومن خلال هذه الأضلاع الثلاثة يتشكل المكون الفكري من عصارة عقول المؤلفين، وخبرات وجهود الناشرين، وبذلك فإن التزوير يضرب العملية برمتها في مقتل، ويؤدي  في النهاية  إلى مشهد عبثي كالذي نعيشه الآن، خصوصاً أن المزور هو لص يسرق المؤلف والناشر؛ إذ لا يتحمل تكاليف إعداد وتجهيز الكتاب للنشر وسداد حقوق المؤلف والوفاء بالتزامات الدولة من ضرائب وتأمينات وغيرها، بما يجعل الأمر في النهاية ظاهرة عالمية وكارثة قومية.

إننا نطالب بإعادة النظر في قوانين حماية حقوق الملكية الفكرية في البلدان العربية عامة، وفي مصر خاصة، بالنسبة للقانون رقم 82 لسنة 2002، وذلك بتغليظ العقوبات لمنتهكي حقوق الملكية الفكرية لتتناسب مع حجم الأضرار التي يسببها المزورون للمؤلفين والناشرين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"