القطبية ومنظومة ويستفاليا

00:47 صباحا
قراءة 3 دقائق

تقف الولايات المتحدة أمام منعطف حاسم وجديد بعد فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية، وهو الذي ما فتئ يكرّر أنّه سينهي «الانكفاء الترامبي»، ويعيد أميركا إلى مكانتها القياديّة عالميّاً، بالتعاون مع حلفائه الأوروبيين، ووفقاً لهنري كيسنجر في كتابه «تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ» (2016)، فإنّ ذلك يعني إقامة نظام دولي جديد يجمع «القوّة والشرعيّة» في آن، ويمكن لواشنطن أن تلعب فيه دوراً رياديّاً على أساس شراكات وتحالفات محدّدة الأهداف.
 وتلك اجتهادات مكثّفة لأفكار «الثعلب العجوز»، الذي يُعتبر أهمّ وزير خارجية أمريكي خلال القرن العشرين، إضافة إلى خبرته العملية والأكاديمية، وهي دعوة للتشاركيّة بدلاً من الأُحادية القطبية، ومن أهم سِمات هذه الاستراتيجية، المرونة واحترام المعايير المشتركة والسيادة الوطنية والخصوصيّة، إلّا أنّه لا ينسى التحدّيات التي تواجهها، وأهمّها الفوضى المستشرية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وانتشار أسلحة الدمار الشامل التي تشكّل عنصر تهديد مستمر، فضلاً عن أعمال إبادة وجرائم جسيمة، حيث لم يعُد ممكناً السّيطرة على الصراعات بفعل التطور التكنولوجي الهائل، وبروز قوى إرهابية عصية على أي قيود، وأي نظام، فضلاً عن تفشي ظواهر العنف بسبب التعصب، ووليده التطرف.
 ولكن كيسنجر يزجّ اسم روسيا المتهمة أساساً بالاختراقات القديمة «الجديدة» لمنظومة الأمن الأمريكي، والأمر لا يتعلّق بالملابسات الخاصة بالانتخابات، بل بمسؤوليتها في تدهور العلاقات الدولية، وهو، وإن يعتبر الصين خصماً عنيداً ومنافساً قويّاً للولايات المتحدة، إلا أنه يميزها عن روسيا ويعتبرها الركيزة الثانية المهمة للاستقرار العالمي، آخذا في الاعتبار «التعددية الآسيوية» وموقع الصين فيها التي تظل تحن لماضيها الإمبراطوري كما يقول؛ ولذلك فإن تأسيس شراكة متينة بين الغرب (واشنطن)، وبين الشرق (بكين)، سيؤدي إلى الإمساك بدفة القيادة، كما يحرم موسكو منها بحيث لن تعود منافساً فاعلاً.
 وإذا كان صلح ويستفاليا (1648) أنهى حرباً دامت أكثر من 100 عام في أوروبا، وأخرى استمرت 30 عاماً حتى وضعت أوزارها عبر نظام جديد يحترم السيادة ويضع حداً للنزاعات المذهبية ويعترف بالمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة؛ فإن كسينجر يعتبر هذا النظام ما زال قائماً على الرغم من حربين عالميّتين، حيث ظلّ مبدأ عدم التدخل بالشؤون الداخلية يحكمها، بل إن منظومة ويستفاليا لا تزال قابلة للتطبيق على المستوى العالمي، فلم يعُد مقبولاً غياب نظام دولي مستقر، حيث بات من الضروري، حسب رأيه، خلق نظام عالمي جديد وفقاً لمبدأي القوّة والشرعيّة.
 ولكن، ماذا عن الشرق الأوسط، وتحديداً موقع العرب ومكانتهم من هذا النظام؟ وهو سؤال سيكون مطروحاً أمام الرئيس بايدن، بعد انقضاء الفترة الترامبية العسيرة، فهل سيستمر بايدن في سياسة ترامب الشرق-أوسطيّة؟ أم أنّه سيسعى لتصحيح مسارها، طالما هو يعلن عن خلل تلك السياسة على المستوى الدولي والأمريكي اللّاتيني والأوروبي، فضلاً عن السياسة الداخلية، كي تظهر الولايات المتحدة بصورتها الأمريكية الحقيقيّة لا بصورتها الشعبويّة العنصريّة المتطرفة التي عرفها العالم في عهد ترامب؟ وهو سؤال مفصليّ لثلاث قضايا:
* أولاها: موقفه من القضية الفلسطينية وحلّ الدولتين الذي غضّ الطرف عنه الرئيس دونالد ترامب، فهل سيعيد موقف باراك أوباما، وقبله جورج دبليو بوش، وقبلهما بيل كلينتون، أم ماذا بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؟
* ثانيتها - هل سيستيقظ مشروعه السابق إزاء الفيدراليّات الثلاث الطائفية - الإثنية في العراق الذي أقرّه الكونجرس عام 2007؟ أم سيغطُّ في نوم عميق، علماً بأنّه تجنّب الحديث عنه خلال الفترة السابقة؟
 ولأنّ الشرق الأوسط منطقة صراع وتنافس وعانت كثيراً بسبب عدم التوصل إلى حلول سلميّة وعادلة للقضيّة الفلسطينية، فضلاً عن اندلاع بؤر توتّر جديدة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، إضافة إلى ليبيا، فإنّه يمكن أن يستمرّ حلبة للصراع ومسرحاً لرسم الخرائط، ومنطقة للتنافس العالمي المحموم حسب كيسنجر، لا سيّما إذا لم يجد حلولاً ناجعة في ظلّ النظام العالمي الجديد، فماذا سيفعل بايدن؟ هل سيختار طريق التشاركيّة، أم يستمرّ في طريق القطبيّة؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"