عادي

نافذة الحكاية

23:30 مساء
قراءة 6 دقائق
1

الشارقة: علاء الدين محمود

تسيطر الرواية على المشهد الأدبي بصورة كبيرة في العالم العربي، إلى درجة تتراجع معها أنواع إبداعية كانت هي الأقرب إلى العرب والأكثر تعبيراً عنهم، مثل الشعر، وهذا الواقع يطرح تساؤلات على شاكلة: كيف يمكن تفسير الاندفاع الكبير نحو الرواية، هل هو هروب من الشعر وأوزانه، والقصة وتكثيفها؟ أم هل هو نتاج تحولات طبيعية، كما جرى في الغرب؟ أم أن الجوائز والنقاد والإعلام قد لعبوا دوراً في ذلك؟ 

«الخليج» تضع الأسئلة أمام عدد من المبدعين والنقاد الإماراتيين.

في المستهل، يستعرض الروائي علي أبو الريش تاريخاً طويلاً ومهماً لتطور الرواية والأسباب التي أدت إلى ذلك، ويرى أن انتشارها وتوسعها بالشكل الراهن استدعته متغيرات اجتماعية وثقافية عميقة، فقد مر العالم العربي بأزمنة شهد خلالها تحولات كبيرة، خاصة في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي؛ حيث عاشت بعض بلدانه تقلبات سياسية واقتصادية وثقافية، وكبت للحريات، فغاب التعبير الحر كثيراً، وبعد الانفتاح، الذي حدث في كثير من البلدان في بدايات القرن الحالي، والذي صادف التطور التقني والتكنولوجي، وظهور وسائل التواصل الحديثة والفضاءات المفتوحة، لم يجد الكتاب نافذة للتعبير عن طموحاتهم وأحلامهم أوسع من الرواية، لأن الكبت أورث الكاتب العربي ميولاً نحو الإسهاب وولعاً بالتفاصيل، ويشير إلى أن ذلك الأمر كانت له بعض الجوانب السلبية، فقد وجد فيه البعض فرصة لتسلق «الحبال الزلقة»؛ بمعنى أن الجميع أراد أن يصبح روائياً، ومما لا شك فيه فإن الثقافة المفتوحة في هذا العصر، فتحت المجال واسعاً أمام الجميع، ويقول موضحاً: «الكل يريد أن يكتب حتى إن كان لا يمتلك القدرات والملكة الخاصة بالكتابة، لكن ذلك بالطبع لا يعني نجاحه، لأن الجيد سيعلن عن نفسه».

ويمضي أبو الريش في حديثه مدافعاً عن زمن الرواية، ويقول: «إذا كان الشعر مجرد ومضة، فإن الرواية هي مائدة واسعة والكل يسعى إلى أن يحتل مقعده فيها».

ويشدد على أن الزمن هو الناقد الكبير، بالتالي ليس هنالك من داع، يجعل النقاد يسلطون سيوفهم ضد الروائيين، وانتشار الرواية، فعلى الرغم من أن هنالك الغث وكذلك السمين، لكن القارئ سيعرف من هو الكاتب الجيد، ومن الذي يفتقد للموهبة الحقيقية والخبرة اللازمة، ويقول: «الحياة تعلمنا التلقائية والبساطة، وكذلك هو فعل الكتابة الإبداعية، فهي ترفض التصنع والإقحام، وهي لا تخضع لحسابات ومعادلات، فالذائقة هي التي تحكم وهي أكبر ناقد».

تاريخ طويل

وفي معرض حديثه عن أصالة الرواية، ذكر أبو الريش، أن السرد موجود في التراث العربي، وهو قديم جداً، فالحكاية كانت ضمن الأدب الذي اشتهر به العرب، وهي كذلك راسخة في الحضارات الأخرى، فهي ابنة الفلسفة وهي بدورها بنت الخرافة، ويقول: «كل منا يمتلك روايته، وهناك من يستطيع أن يعبر عنها، وآخر تظل مكبوتة في داخله»، وأشار إلى أن الرواية لم تصل إلينا من الغرب، فالقصص موجودة في القرآن الكريم، ومنذ أيام بابل ونبوخت نصر وشريعة حمورابي، فقد كان التراث الحكائي قوياً، لكن العرب مروا بفترات ضعف طويلة، بعكس الغرب الذي عاش لحظات انتعاش وقوة فتطورت الحكاية لديه إلى سرد ورواية.

ويقطع أبو الريش، بأن الرواية هي الفن الأمثل في التعبير عن المجتمع، وتفاصيل الحياة اليومية، وهموم الأفراد والجماعات، فهي تنقل تلك الحالات النفسية والمشاهد الحياتية العابرة، وترفعها إلى عمل سردي، بعكس الشعر، على سبيل المثال، الذي لا يستطيع أن يدخل في تفاصيل الذات البشرية؛ حيث إن الرواية هي فعل تفسيري للحالات والمواقف والمشاعر وهي تفكيك وتحليل، وهي تجمع بين علوم مثل الفلسفة والسيكولوجيا، فهي برلمان مفتوح يناقش كل القضايا ومختلف التوجهات.

ويستعرض أبو الريش، بعض ميزات الرواية دون الفنون الإبداعية الأخرى، ويشير إلى أنها تجعل المرء في حالة يعايش الأحداث وتحولات جرت في أمكنة بعيدة عنه، فأميل زولا على سبيل المثال كتب رواية «بطن باريس»، ليبرز فيها الواقع السياسي والاجتماعي، وتفاصيل الحياة اليومية لمدينة باريس بتشريح عظيم وحبكة عالية؛ بحيث يشعر القارئ وكأنه بالفعل في بطن باريس في نهايات القرن الثامن عشر، كما أنها تقرب الاتجاهات الفكرية والفلسفية، كما فعل سارتر في رواية «الغثيان»، معبراً عن اللحظة الوجودية والموقف من الحياة، ويشير إلى أن الرواية أيضاً تقوم بمهمة التنبؤ واستشراف المستقبل، وهناك روايات تخصصت في ذلك الأمر.

ويخلص أبو الريش إلى ضرورة أن يعرف الجيل الحالي المندفع نحو الرواية، أن العجلة لا محل لها مع ذلك الفن السردي، الذي يتطلب خبرات حياتية وأسلوبية ومقدرة فائقة على الالتقاط والرصد والتعبير والثقافة فمن غير الممكن اقتحام هذا المجال دون امتلاك الخبرة، لأن الرواية تحتاج إلى التقصي وطرح التساؤلات، ويجب أن تتوفر لدى كاتبها حصيلة كبيرة من الفكر والمعارف.

فن سهل

أما الشاعر كريم معتوق، فهو يختلف مع فكرة صعود الرواية مقابل بقية الأنماط الأدبية، وعلى الرغم من دخوله تجربة كتابة السرد، وله بعض الأعمال الروائية مثل: «حدث في إسطنبول»، و«خذلتك الأمة»، و«أعصاب السكر»، و«رحلة ابن الخراز»، إلا أنه لا يخفي انحيازه للشعر، فهو يرى أن الرواية في عصرنا الحديث هي الأسهل، وفي الوطن العربي، فإن أعظم الأدباء هم الشعراء، و الميزة الوحيدة للرواية أنها قابلة للترجمة هي والقصة القصيرة على عكس الشعر، فالشاعر يكون عظيماً في لغته الأم فقط، فعلى سبيل المثال نجد أن أديباً عظيماً مثل فيكتور هوجو، وصل إلى العالم كروائي، ونادراً ما يعرف العالم شيئاً عن شعره الكثير، بالتالي نلاحظ أن معظم الذين نالوا جائزة نوبل هم من الروائيين.

وينعطف بالحديث نحو مقولة الناقد جابر عصفور، «نحن نعيش زمن الرواية»، والتي يحتج عليها قائلاً: ليس للرواية ولا للشعر وقت ما، كل ما في الأمر أن هناك إبداعاً فردياً أساسه الموهبة والثقافة، فالأدب الحقيقي يظل باقياً في المجالين، أما كثرة المنتج من الأدب السردي الروائي فهو يعود إلى كونه الإبداع الأسهل.

ولفت معتوق، إلى أن النقاد يغرمون بالكليشيهات، والجمل الرنانة، والترويج للنهايات، على شاكلة «انتحار الشعر»، وما شابه ذلك، من أجل أن يؤكدوا ويرسخوا لموقفهم الذي يرى أن الأدب يعيش زمن الرواية، مشيراً إلى أن الجوائز أسهمت في ذلك الأمر بصورة كبيرة.

وحول تجربته مع الرواية، ذكر أن الشاعر يلجأ أحياناً إلى أن يكتب الرواية، ويكون الدافع في ذلك هو تراكم الخبرات والأفكار؛ حيث يشعر بأن الإناء القادر على استيعاب كل أفكاره ومواقفه هو الرواية.

ويرى معتوق أن الرواية تحتاج إلى خبرات حياتية، وتجربة عمرية، ويستعيد حواراً جرى بينه والروائي الكبير نجيب محفوظ، ويقول: «سألت محفوظ عن مقولة أحد الروائيين الفرنسيين، بأن الروائي قاص فاشل، والقاص شاعر فاشل، فرفض محفوظ تلك المقولة، وذكر لي أن كاتب الرواية يكون في الغالب قد تقدم في السن، على عكس الشاعر، فهي تحتاج إلى الخبرات الطويلة»، وأضاف موضحاً أن الرواية بدأت الآن تشق طريقها عند الشباب، وهؤلاء في معظمهم، غير قادرين على كتابة الشعر الذي يحتاج إلى الموهبة في الدرجة الأولى ثم الثقافة، موضحاً أنه لا يقف ضد الرواية، فهنالك أعمال عظيمة، فهي أدب المدينة الزاخر بالأحداث والشخوص، لكن هناك استسهال في كتابتها لدى كثير من الشباب.

اشتباك

ترى الناقدة الدكتورة مريم الهاشمي، أن الرواية لها جذور وأصول في الأدب العربي في بعض ما جاء في كتب الجاحظ، وابن المقفع، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، والحريري، وعلى الرغم من أن بعض الدارسين قد أشاروا إلى أنها فن مستورد، لكن الرواية فن أصيل، وتوضح تلك النقطة مشيرة إلى أن بعض الأجناس الأدبية القديمة تدخل في فن الرواية.

وتكشف الهاشمي عن الإمكانيات الهائلة والطاقة الاستيعابية الكبيرة التي تتميز بها الرواية دون غيرها من الأنواع والأنماط الأدبية الأخرى، فهي ترى أن الرواية، متأثرة بالفعل القرائي والتواصلي، وتشتبك مع كافة التمثيلات الثقافية، كالشعر والقصة والمسرح، كما تشتبك مع التراث والخرافة والأسطورة والأمثلة والأغنية الشعبية والأرجوزة، وغيرها من المفاهيم التي تتسرب وتنداح داخل النص الروائي.

وتلفت الهاشمي إلى أن ذلك الانفتاح، أتاح للرواية أن تخوض في مضامين جديدة متنوعة مثل الترجمة الذاتية والغرائبية والبطولات الوهمية، وأيضاً التاريخ الذي دخل إلى عمق الرواية ويسعى إلى استرجاع الأحداث السابقة لمحاولة فهم الحاضر، بالتالي تحاول الرواية معرفة أسباب الظواهر بردها إلى أصولها في الماضي من أجل الإحاطة بها واكتشافها، وبالتالي استشراف المستقبل.

وأوضحت أن الرواية لديها القدرة على توظيف عوالم سردية وتخيلية تواكب ملامح المجتمع المعاصر، وتحاول أن تقدم مفهوماً جديداً للإنسان والحياة، لذلك هي تشمل عوالم اليوتوبيا والديستوبيا وما بعد الكوارث، بالتالي فإن الرواية هي فن حداثوي بامتياز، يستوعب كل ما يطرأ، ويعبر عن اللحظة الراهنة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"