عادي
شمس الحضارة

ابن زهر وريث الطب ومورثه

00:04 صباحا
قراءة 4 دقائق
1

‏مع بداية القرن الخامس الميلادي كان العالم يعيش في ظلمات من الجهل والتخلف، فمع وهن الإمبراطورية الرومانية وتفتتها، بدأت العصور الوسطى المظلمة التى اتسمت باضمحلال العلوم وانتشار الخرافة والمتوارثات الشعبية الأسطورية. وفي خضم هذا السواد الحالك لاح في الأفق نور يبدد ظلام الجهل لتبزغ شمس الحضارة الإسلامية، حيث كان المسلمون يعيشون حياة الازدهار والرقي، وشهدت القرون الوسطى تقدماً فريداً في كل العلوم والمجالات، خاصة الفلك والطب والفلسفة ، وغدت بلاد المسلمين مقصد العلماء وطلاب العلم، حيث العدل والحرية اللذان مهدا الطريق أمام العلماء للبحث والمعرفة ووضع أسس المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج وإعمال العقل ليظهر جيل جديد من العلماء الذين وضعوا اللبنات الأولى للتطور العملي الحديث.

في عام 464ه ولد أبو مروان عبدالملك بن أبي العلاء زهر بن محمد بن مروان بن زهر الأيادي الإشبيلي، وهو ينتمي إلى عائلة بنو زهر العربية الأصل أندلسية المقام، ويمثل الجيل الثالث في أسرة عريقة أنجبت للعالم الإسلامي والعالم أجمع، من الخامس الهجري إلى السابع الهجري، كوكبة من الأطباء والأدباء والفقهاء والوزراء. هو بحق وريث الطب ومورّثه، إذ ورثه عن أبيه عن جده، وورّثه لأبنائه ولأحفاده، فكان جده محمد بن مروان بن زهر شيخ زمانه وعالم عصره، ثم خلفه ابنه أبو مروان عبدالملك بن محمد بن زهر، الذي نبغ في الفقه، إلا أنه كان طموحا ًفاشتغل بالطب، ورحل إلى القيروان فتتلمذ على يد كبار أطبائها، ثم رحل بعد ذلك إلى القاهرة فنال شهرة واسعة في الطب فخلفه في الشهرة ابنه أبو العلاء.

استقرت أسرة هذا العالم في إشبيلية التي  كانت محط أسرة بني عباد ذائعة الصيت. واسمه اختصاراً هو: أبو مروان بن زهر، واسمه في المراجع الأوروبية هو avenzoar ولد في (بنجلور) بالأندلس، وتوفي في إشبيلية في عام 557ه 1162م.

اعتمد ابن زهر على التجربة والتدقيق العلمي، وتوصل بذلك إلى أمراض لم تدرس من قبل، ودرس أمراض الرئة، وأجرى أول عملية في القصبة المؤدية إلى الرئة، ويعتبر ابن زهر من أوائل الأطباء الذين اهتموا بدراسة الأمراض الموجودة في بيئة معينة، ويعتبر من أوائل الأطباء الذين بينوا قيمة العسل في الدواء والغذاء. وعلى الرغم من سعة معارفه، إلا أن تخصصه في العلوم الطبية جعله يضيف أبحاثاً مهمة، منها ما يتعلق بالأمراض الباطنية والجلدية وأمراض الحمى والرأس، ما جعله فريداً بين أقران عصره.

وكان له أسلوب مبتكر في علاج المرضى، إذ كان يوفر لهم وسائل الترفيه ويسمعهم الموسيقى، ويأتي اليهم بالقصّاص والشعراء ويعرض عليهم (خيال الظل) لتسليتهم وتخفيف آلامهم. درس وابتكر في الأمراض النفسية، ونصح بحسن معاملة المرضى، والرفق بهم، والتعرف إلى أحوالهم وسماع كلامهم، وتهدئتهم، ومراقبة تأثير الدواء فيهم خلال ثلاثة أيام. ويعتبر ابن زهر هو أول من وصف خراج الحيزوم والتهاب التامور (غشاء القلب) اليابس والانسكابي، وميّز بينه وبين التهاب غشاء الرئة. ووصف التهاب الناصور والسل المعوي، ووصف عملية استخراج الحصى من الكلى، وفتح القصبة الهوائية، ووصف التهاب الأذن الوسطى، وعالج خراريج فوق الرئة بشق الصدر وتطهيرها.

ونجح ابن زهر في علاج شلل البلعوم بثلاث طرق مختلفة أخذها عنه الأطباء من بعده: كوضع المريض في ماء فاتر به بعض الأملاح المغذية، فيتشرب جسمه هذا المحلول عن طريق الجلد، وتوصل إلى أفضل علاج للحمى في الأعضاء، ومن قوله في هذا (أما أنا فلا شيء أنجح عندي من صب الماء البارد).

وابتكر في مجال التخدير طريقة الإسفنج المنوم، أو المرقّد، أو المخدّر، وهو قطعة من الإسفنج الطبيعي تغمر في مزيج من المواد المنومة والمخدرة (مثل الأفيون) والمواد العطرية (مثل ست الحسن والزؤان)، ثم تجفف في الشمس، وتحفظ، وعند استعمالها تبلل بالماء فتنبعث منها أبخرة المادة المخدرة إلى أنف وفم المريض أثناء إجراء الجراحة له. كما كان ابن زهر يخيط الجروح بعد الجراحة لمساعدتها على الالتئام.

ونصح ابن زهر باستعمال الخل والفلفل للوقاية من الحميات العفونية، واتضح حديثاً صدق ما قال حين اكتشف علماء الميكروبيولوجيا أن البكتيريا لا تعيش في وسط حامضي، أو زيت، كالزيت الحريف الطيار الموجود في الفلفل.

ووصف طفيلاً الجرب، وإن كان سبقه إلى هذا علي بن ربن الطبري، كما مارس ابن زهر العمليات الجراحية في المخ والقلب والكبد والمعدة والصدر، وكان له ولأبي القاسم الزهراوي، الفضل في تمهيد الطريق لظهور الجراحة الحديثة.

ويذكر المؤرخون لابن زهر إنجازات في أمراض الحلق والحنجرة والقلب والسرطان، كذلك في أمراض العيون وجراحة العين المصابة بالحثار (تراكاما)، ونصح بالتغذية الصناعية عند تعذر البلع، بإدخال الطعام من شق في المريء، وكان ابن زهر على بينة من أن تلوث أدوات الجراحة يسبب تلوث الجروح، ولذلك فإنه كان يعقمها جيداً بالماء، وأحياناً بعسل النحل، وأحياناً أخرى بمزيج منهما. 

ترك لنا ابن زهر ثروة علمية ناضجة، تنمُّ عن سعة أفقٍ، وكثرة اطلاع، ولعل من أهم مؤلفاته كتابه «التيسير في المداواة والتدبير».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"