رسائل ومعارك قيس سعيِّد

00:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

بتوقيتها ورسائلها لم تكن زيارته القاهرية عادية على أي نحو. الوقائع جرت في مكان والرسائل قصدت مكاناً آخر.

التصريحات دخلت في شواغل الأمن القومي العربي وتطورات الأزمة الليبية، وأزمة «السد الإثيوبي»، لفتت أنظاراً واستقطبت مشاعر بقدر وضوحها وحميميتها، غير أن العيون شخصت إلى تونس متسائلة عن قدر تأثير الزيارة على تفاعلاتها وأزماتها الداخلية.

بحكم صلاحياته الدستورية، فهو «رئيس مقيد» على الرغم من أنه منتخب مباشرة من شعبه بأغلبية كبيرة.

تلك مشكلة مستعصية في بنية النظام السياسي التونسي تهدد تجربته الديمقراطية والحريات العامة الواسعة المتاحة، التي تعد الإنجاز الوحيد للثورة التونسية. هناك فارق جوهري بين توازن السلطات وتشوه الأدوار.

التوازن من ضرورات الديمقراطية والتشوّه قد يُفضي إلى إجهاضها. بأثر التجربة المريرة تحت حكم زين العابدين بن علي، مال التونسيون إلى تقليص صلاحيات الرئيس إلى أقصى درجة ممكنة، لكنهم أبقوا على النظام الرئاسي!

هكذا تجلى التشوه السياسي في الأزمة المتفاقمة بين الرئيس والحكومة والبرلمان، دون قدرة على حلحلتها، أو التخفيف من وطأتها.

حركة «النهضة» صاحبة الأكثرية في البرلمان، تطلب التحكم وحدها في مفاصل الحكم، وأن يتبعها الرئيس بالمباركة دون أن يكون له رأي على النحو الذي كان عليه المنصف المرزوقي، أول من تولى رئاسة الجمهورية بعد الثورة التونسية، لكنه لم يكن منتخباً مباشرة من الشعب.

أخطر ما تتعرض له تونس بعد عشر سنوات من إطاحة نظام زين العابدين بن علي، هو خلل منظومتها السياسية، بينما تتفاقم أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، والأنين العام يدوي في أرجاء البلاد والضجر من القوى السياسية المهيمنة يأخذ مداه.

في مثل هذه الأوضاع القلقة اكتسبت زيارة الرئيس قيس سعيِّد للعاصمة المصرية معاني أكبر مما هو ظاهر على شريط الأخبار.

أراد أن يقول: «أنا هنا، الرجل الأول في تونس، أنا وحدي من يحق له التحدث باسم تونس ويحدد توجهات السياسة الخارجية كما هو منصوص عليه في الدستور».

كان ذلك رداً عملياً متأخراً على تغول راشد الغنوشي، رئيس حركة «النهضة»  باعتباره رئيساً للبرلمان  على صلاحيات الرئيس في إدارة السياسة الخارجية بزيارات لدول في الإقليم، وإجراء مباحثات مع رؤساء دول وحكومات وتقرير سياسات دون علم الرئيس، أو تفويض من البرلمان نفسه.

كانت تلك من مقدمات الأزمة بين الرجلين قبل أن تصل إلى حدودها الحالية، حيث التنازع معلن والحرب مفتوحة. الرئيس علت لهجته ضد الإسلام السياسي ممثلاً في حركة «النهضة»، والشيخ راشد يصعّد ضده في البرلمان داعياً  عبر أنصاره  إلى مساءلته عن تعطيل العمل الحكومي، ورفض التعديلات التي اقترحتها الحركة على قانون المحكمة الدستورية، والتساؤل عن حالته الصحية، ومدى أهليته للحكم. كان ذلك تزيداً في النزاع السياسي إلى حدود تُنذر بمواجهات واسعة محتملة.

صورة قيس سعيِّد اختلفت تماماً عما بدا عليه عند صعوده إلى قصر قرطاج. قيل إنه موال للإسلام السياسي، وإنه سيكون رئيساً طيّعاً لما تريده حركة «النهضة» التي تحوز الأكثرية البرلمانية، عند تشكيل الحكومات أو تغيير الوزراء، في السياستين الداخلية والخارجية، معاً، فلا يتجاوز دوره التوقيع والمباركة دون حق إبداء الرأي.

ساعد على بناء ذلك التصور أن سجله السياسي بدا غامضاً، فهو وجه غير معروف في الحياة السياسية التونسية، باستثناء مداخلات يلقيها من حين لآخر على شاشات التلفزيون في موضوعات تدخل في صميم تخصصه الأكاديمي كأستاذ قانون دولي.

كان صعوده بذاته تعبيراً عن إفلاس الطبقة السياسية، وقلة ثقة الرأي العام فيها، اختار الناس الرجل النظيف، المتقشف، الذي اعتمد على مجموعة من الشبان ينتسبون لقيم الثورة التونسية في إدارة حملته الانتخابية دون أن يكون لديه حزب سياسي يدعمه، أو قوة مالية تقف خلفه.

خلفيته قانونية شأنه في ذلك شأن الرئيس الأول الحبيب بورقيبة، دون أن تكون لديه الشخصية القيادية نفسها. كل تصريح أدلى به في القاهرة كان رسالة لمنافسيه السياسيين بأنه ليس الرجل الطيّع الذي تصوروه، وكل تصرف قام به دخل على ملف الأزمة الداخلية في بلاده، من حيث الصورة التي أراد أن يبدو عليها.

أراد أن يقول إن مصر بلاده، مثل تونس، على طبيعته هنا، كما هو على طبيعته هناك.

كان ذلك تعبيراً عن توجه عروبي راسخ يعبر عن نفسه بحرصه على الحديث بلغة عربية فصحى. 

وكانت زيارته لضريح جمال عبد الناصر، رسالة أخرى في نفس الاتجاه: «أنا قومي عربي، تونس عربية ومستقبلها في عالمها العربي». 

أكد تصريحه أن «الأمن المائي المصري من الأمن القومي العربي»، المعاني نفسها، لا مساحات رمادية، حين تطرح القضايا الوجودية نفسها على أي بلد عربي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"