عادي
أثر القلب

«موت صغير»..الحب زاد المؤمن

23:27 مساء
قراءة 4 دقائق
1

الشارقة: علاء الدين محمود

يظل صاحب المحبة والتجربة الروحية في سفر دائم في أرض الله تعالى، لا يكاد يستقر على بلد واحد، باله مشغول بتأمل قدرة الخالق، هي رحلة داخل رحلة، تنقل من مكان إلى آخر، استعداداً للرحيل الأخير حيث ملاقاة رب العالمين، والزاد في الرحلتين هو التقوى والورع والمحبة الخالصة التي ترتقي بصاحبها من مقام إلى مقام، إنها الموت الصغير، الذي يعني تملك الحب من الإنسان وسيطرته عليه. 

1

وفي رواية «موت صغير»، ينسج الكاتب السعودي محمد حسن علوان، تفاصيل قصة يجمع فيها بين الواقع والمتخيل ليحيط بحياة الصوفي محيي الدين بن عربي «1164  1240»م، منذ مولده في بلاد الأندلس حتى وفاته في دمشق، ويضعنا داخل ثنايا ومنعطفات الرحلة الكبيرة التي خاضها من الأندلس في الغرب، إلى أذربيجان في الشرق، مروراً بالمغرب ومصر والحجاز وبلاد الشام والعراق وتركيا.
ومن خلال أحداث هذه الرواية، نتعرف إلى حياة ابن عربي في طفولته، ثمّ مراهقته، وهو يتجوّل ذهاباً وإياباً في شوارع مرسيَّة، فقد عاش حياة مرفهة حيث كان والده يشغل وظيفة كاتب في بلاط الوالي وعنده حظوة لدى الخليفة، لكنّ ابنه الفتى كان يتوق إلى مغادرة أسوار المدينة، أن يرتحل، أن يرى العالم خارج الأسوار، إلى أن سنحت له الفرصة لتحقيق هذه الأمنية بارتحال العائلة بكاملها هروباً من خطر البرتغاليين الذين كانوا على أعتاب مهاجمة المدينة.
تجربة روحية
وهي الرحلة التي شهدت تجربة روحية اتسمت بالعمق والسمو الوجداني، وعبر عنها ابن عربي شعرا ونثرا ودفقات وجدانية تشير إلى روح مضطربة مملوءة بالأرق والقلق، كحال كل مسافر إلى الله تعالى، لا يطمئن إلا بتلك النفحات الطيبة المباركة، هي نفحات الإيمان، فالسالك يسعى دائماً إلى أن يخلص نفسه من الكِبر الذي يجعل صاحبه يظن أنه قد بلغ المرام وطرق عتبات الكمال، وذلك لا يتأتى إلا بمجاهدة النفس وزجرها عن اتباع الهوى والشهوات، حينها يصبح الزاهد مستعداً لاستقبال الأوامر المعرفية والمدد الروحي والأسرار.
طهّر قلبك
 وما كان لتلك الرحلة العظيمة التي خاضها ابن عربي، أن ترى النور لولا نصيحة وموعظة استقرت في قلبه وسعى لأن يجعلها واقعا متحققا، تلك التي نطقت بها فاطمة القرطبية، مخاطبة الصبي ابن عربي، عندما قالت له: «طهر قلبك»، وهي المرأة التي تربى في كنفها وأحبته، حيث كان لها بمثابة الابن والتلميذ، فكانت وصيتها التي أهدتها له هي المفتاح أو كلمة السر للدخول في رحلتيه الطويلتين في داخل ذاته، وتنقله في مناكب الأرض، فطهارة النفس لها مفعول السحر في الإنسان، والوصول إليها يتطلب التفكير والتأمل في الذات، وفي المخلوقات، وعجائب قدرة رب العباد، هي تدبّر في الكون والوجود، ولا تكون طهارة النفس ممكنة إلا إذا خاض المرء تجربة قاسية في معاندة ملذات الحياة، وذلك كان الطريق الذي سلكه كل الذين امتلأت قلوبهم بمحبة الله تعالى فغمر قلوبهم بالإيمان والطمأنينة والرضا والتسليم.
إنها رحلة الأنوار الساطعة، يستريح فيها الإنسان من عناء الواقع بعذب الكلام، وتكاد الأنفس ترقص طرباً من حلاوة الذكر والمناجاة الشفيفة، تلك التي تخرج من قلب العابد الذاكر عند الأسحار، حيث الهدوء يعم كل شيء فيصفو القلب، وتتطلع الروح إلى خلوة تتواصل فيها مع بارئها بالعبادات والصلوات، صور جميلة ومشاهد باذخة تضعنا أمامها الرواية وهي تغوص في أعماق عوالم أهل الطريق وتقلباتهم اليومية، فالسالك يجالس الناس، ثم يعتزلهم، يتجاذبه الشيء ونقيضه، فتلك أحواله لا يهدأ له بال، بل هو في قلق دائم، وكذلك كان ابن عربي، فالرواية لا تكتفي بالسفر والترحال معه، بل ترصد كل سكناته في سرد جميل يسري كأنه نهر شديد العذوبة. 
بساطة الحياة
ولعل من أكثر الأشياء التي جعلت العمل يلقى كل ذلك الرواج، هو السرد البسيط غير المتكلف، محاكياً بساطة الحياة التي عاشها ابن عربي، بلغة تحاول أن ترتقي إلى مستوى أشعاره وخطبه ونثره، هي لغة الصوفيين أنفسهم، وكذلك التقنيات التي تم توظيفها في العمل، حيث هناك تنوع في الأصوات الساردة، فالراوي الرئيسي للقصة هو ابن عربي نفسه، الذي يحكي عن مولده ونشأته وأسفاره المتواصلة، بمستهل بديع يقول فيه: «منذ أوجدني الله في مرسيّة حتى توفاني في دمشق وأنا في سفر لا ينقطع. رأيت بلاداً ولقيت أناساً وصحبت أولياء وعشت تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة في طريقٍ قدّره الله لي قبل خلقي. من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار. المؤمن في سفرٍ دائم. والوجود كله سفرٌ في سفر. من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم»، لكن تظهر أصوات أخرى جديدة في منعطفات الرواية الكثيرة، وهي لشخصيات مؤثرة ومهمة في حياة ابن عربي.
والعمل لا يكتفي فقط بالحديث عن ابن عربي بوصفه الصوفي الشهير وحسب، بل يرصد جوانب إنسانية مشرقة من حياته، فيتناول طفولته، ويتحدث عنه كزوج وأب، ويتتبع حياة الرفاق والصداقة، والأفراح والمواجع التي تعرض لها، وكيف شكّل الحب قيمة أساسية في مسيرته الممتدة، حب الناس والمخلوقات، وحب الله عز وجل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"