اتفاقية استثمار عالمية متعددة الأطراف

21:42 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

قبل حوالي عقدين ونيف، وفي أجواء من التكتم والسرية، تمت مناقشة وصياغة مسودة اتفاقية الاستثمار المتعددة الأطراف (MAI) بين الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، على مدى الفترة الواقعة بين عامي 1995 و1998. معلوم أن هذه المنظمة التي تأسست في عام 1961 في باريس، تضم 36 دولة رأسمالية على رأسها الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية، بالإضافة إلى بعض الدول ذات الاقتصادات الصاعدة. وقد أرادت من وراء إنشاء هذه الاتفاقية الدولية وضع قوانين استثمار عالمية تمنح الشركات الدولية حقوقاً غير مشروطة للانخراط في عمليات مالية حول العالم، من دون اعتبار للقوانين الوطنية للدول وحقوق مواطنيها. فقد منحت قواعد تلك الاتفاقية، الشركات، حق مقاضاة الحكومات إذا ما هددت القوانين المحلية الخاصة بالصحة والعمل والبيئة، مصالحها. لذا، حين كُشف النقاب عن الاتفاقية لأول مرة في عام 1997، فإنها جوبهت بانتقادات حادة من جانب الدول النامية والمنظمات غير الحكومية في مختلف أنحاء العالم، خصوصاً فيما يتعلق بغياب قواعد تنظم الاستثمارات الأجنبية. وقد انصب وجه اعتراض هؤلاء على الاتفاقية، على مسوِّغ تهديدها لمعايير العمل والبيئة ولمصالح البلدان الأقل نمواً؛ بما سينتج عن تطبيقها من «سباق نحو الأسفل» بين الدول الراغبة في خفض معايير العمل والبيئة لديها لجذب الاستثمارات الأجنبية. وهذا ما دفع البلد المضيف، فرنسا، للتنصل من الاتفاقية، وبالتالي جعل إقرارها غير ممكن لعدم توفر الإجماع عليها من جانب كافة أعضاء المنظمة.

بعد الحرب العالمية الثانية، ومع تسخين عمليات تصدير رأس المال إلى الخارج مطلع ستينات القرن الماضي، بحثاً عن توسيع دائرة فرص الاستثمار وتنويع جغرافيته، كان العالم يتعامل مع ترتيبات وإشكاليات هذه العملية من خلال «اتفاقيات الاستثمار الثنائية» (BIT)، التي تُعقد بين دولتين تتفقان على شروط وترتيبات الاستثمار بينهما. وازداد زخم هذه الاتفاقيات في تسعينات القرن الماضي، مع حرص الدول والمستثمرين على تعزيز ضوابط الأمان والاستقرار ومساحة الحركة، خصوصاً بعد أن اتضح لهم أن «تدابير التجارة المتصلة بالاستثمار» (TRIMS)، واتفاقية التجارة المتصلة بقضايا حقوق الملكية الفكرية (TRIPS)، والاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (GATS)، التي جرت المفاوضات للاتفاق بشأنها في جولة أوروغواي من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في إطار الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (جات) - تعالج جزءاً فقط من اهتماماتهم.

سد الفراغ الذي تركه عدم الاتفاق على إطار دولي متعدد الأطراف للاستثمار، تم من خلال عدة آليات ثنائية الطابع، منها «اتفاقيات التجارة والاستثمار التفضيلية (PTIAs)، وهي عبارة عن اتفاقيات اقتصادية أوسع نطاقاً تبرم بين الدول لتسهيل التجارة الدولية ونقل عوامل الإنتاج عبر الحدود. ويمكن أن تكون هذه الاتفاقيات في صورة ترتيبات تهدف لتحقيق تكامل اقتصادي أو اتفاقيات تجارة حرة (FTAs)، أو اتفاقيات شراكة اقتصادية (EPAs)، أو أنواع أخرى من الاتفاقيات التي تتضمن، من بين أشياء أخرى كثيرة، أحكاماً تتناول الاستثمار الأجنبي. وتعتبر اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA)، أحد أشكال اتفاقيات التجارة والاستثمار التفضيلية (PTIAs). فهي تتناول مجموعة واسعة من القضايا، وأهمها التجارة عبر الحدود بين كندا والمكسيك والولايات المتحدة، كما أن الفصل الحادي عشر من هذه الاتفاقية يغطي أحكاماً مفصلة حول الاستثمار الأجنبي، مماثلة لتلك الأحكام الموجودة في معاهدات الاستثمار الثنائية.

اليوم، في ظل أجواء الحمائية والحروب التجارية، فإن عدد اتفاقيات الاستثمار الدولية المبرمة، آخذ في التراجع، حيث سجل في العام الذي سبق الجائحة، رقماً هو الأقل منذ عام 1983. بل إن عدد الاتفاقيات الملغاة والمنتهية فترة سريانها، زاد على عدد الاتفاقيات الجديدة المبرمة. مع ملاحظة استمرار زخم المفاوضات بشأنها في بلدان آسيا وإفريقيا، والتي صار موضوع الاستدامة التنموية جزءاً لا يتجزأ من مسودات بنودها. وفي ظل غياب إجماع دولي على اتفاقية استثمار متعددة الأطراف، فإن العديد من الدول المتقدمة والنامية تقوم بمراجعة مناهجها لمعاهدات الاستثمار وتسوية المنازعات بين المستثمرين والدول، بما في ذلك البحث عن مقاربات تحقق التوازن بين حقوق ومسؤوليات المستثمرين وحماية الحق السيادي للدول كمنظِّم للأسواق والاقتصادات. وقد انسحب العديد من الدول النامية من معاهدات الاستثمار، وهي تسعى لإيجاد بدائل إما من خلال القوانين الوطنية أو من خلال تصميم نماذج جديدة لمعاهدات الاستثمار تعكس نهجاً أكثر توازناً. خلال عام 2015، على سبيل المثال، قامت إندونيسيا بمراجعة نموذج معاهدة الاستثمار الخاصة بها؛ كما أصدرت الهند نموذج معاهدة الاستثمار الجديد؛ واعتمدت جنوب إفريقيا قانوناً جديداً للاستثمار الوطني دخل حيز التنفيذ في نهاية عام 2015؛ وطورت البرازيل نموذج معاهدة «تيسير الاستثمار والتعاون الخاص بها».

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"