عادي

تَخيُّل المستقبل

01:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

** عالم اليوم معقد وملتبس، وعالم الغد - المستقبل، أكثر تعقيداً وغموضاً، وإيقاع الضغوط فيه أكثر تسارعاً وسطوة وأعمق نفاذاً، ومفتوح بالكامل على شتى الاحتمالات، ويبدو لنا والعالم أنه يحثّ خُطاه، مع تسارع التحولات والمتغيرات والثورات التكنولوجية، وبمعدلات مطردة.
** الاستعداد للمستقبل يتطلب مقاربة متكاملة تدمج الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والتعليمية والانثروبولوجية والنفسية والثقافية، في تشكيل السياسات والخطط والنماذج والقيم والمعارف والنظم والموارد.
** إن بيئة المستقبل البعيد والمتوسط رحبة ومعقدة، مملوءة بالتحديات والأزمات المتوقعة وغير القابلة للتوقع والممتدة عبر سلسلة من المجالات الجيوسياسية والبيئية والتنموية، وتهديدات الأمن الغذائي والمائي والأوبئة والطاقة، وقضايا اجتماعية وتعليمية ونزاعات، وتحديات الحوكمة والثورة الرقمية، ومسار الرفاه ومصيره، وتحديات التعليم ونوعيته، وقدرته على تهيئة الأجيال القادمة لمواجهة المتغيرات والأزمات والتحديات.
** إن كثيراً من هذه التحديات قد تبدو عصية على التعامل معها أو حتى توقعها، لكنها ستكون في متناول قدراتنا بشكل إيجابي، إذا اخترنا التعامل معها، باهتمام ومعرفة وخيال خصب وإبداع، وباستجابة عملية واضحة وشجاعة.
** ما أكثر ما كتبناه، كمثقفين وكتّاب، عن حاجتنا الماسة لتأسيس آليات بحثية لاستشراف المستقبل، بعيداً عن مراكز الدراسات المعنية بالتعامل مع الآني من الأحداث والأزمات ومن منظار أيديولوجي - سياسي، والرأي الأحادي.
** إن استشراف المستقبل لا يقوم على التخمين، ولا يقتصر على التنبؤ القائم على التقدير الاستقرائي لاتجاهات الحاضر اليومي، بل يتطلب البحث الجاد والدؤوب، وفي إطار مناهج استكشافية متكاملة تسعى لإنتاج صور متعددة عن المستقبل، وورش عمل تشاركية، ومقاربات متعددة، تطرح الأسئلة الصعبة، لحقول متنوعة، للوصول إلى تصورات للمستقبليات الممكنة والمحتملة والمفضلة والاستشرافية.
** لا غضاضة في اهتمامنا المتزايد بمستقبليات تكنولوجية متطورة، لكن من الضروري أيضاً الاهتمام بمستقبليات استشرافية حول الإنسان، نفسياً واجتماعياً وثقافياً وروحياً، وغيرها من المجالات الإدراكية والسلوكية.
** نستطيع أن نواصل الاستثمار بقوة في أحلامنا التكنولوجية، وفي الوقت نفسه أن نعزز الاستثمار في أبحاث ارتقاء الثقافة وتطوير الوعي، وترسيخ الانسجام بين الأجيال، ومعالجة الخواء الأخلاقي والقيمي، وتوفير بيئات مستقبلية خالية من العنف والغلو والكراهية واللامساواة، وتحديات التعليم، وتعديل طرق التفكير لمواجهة تحديات مستقبل يتزايد في تعقيداته وسرعة تغيره... الخ.
** تُقلق كثيرين منا حالة جيل مدمن على هواتفه النقالة وحواسيبه، ويتوقع علماء بأن تظهر في المستقبل عيادات ومراكز لمعالجة هذا الإدمان الرقمي.
** لقد زاد، ويتزايد بوتيرة عالية، اعتمادنا على شاشات ممتلئة بالصور والأرقام، ولم يعد بوسعنا معرفة موقع لمؤسسة أو منزل إلا بامتلاك نظام تحديد الموقع (جي بي إس) في هواتفنا المحمولة، وما عدنا نتذكر الأشياء وبخاصة هواتف أبنائنا أو أصدقائنا أو حتى رقم الهاتف الأرضي للمنزل، مادامت مسجلة في ذاكرة الهاتف والحاسوب. ولا ندري هل ستؤدي هذه التمددات التكنولوجية، إلى توقف في تطور الارتقاء الطبيعي لملكات الإنسان العليا، وبخاصة الذاكرة. سؤال صعب، لكنه مطروح على أجندة المستقبل.
** وفي ظل الفعل الاستشرافي العلمي الشامل، تصبح الرؤية أكثر وضوحاً، وتسهل عملية ولادة السياسات والنظم والبرامج والمبادرات.
** ولا شك في أن رحلة الغد تبدأ اليوم من خلال الحكمة وتخيل المستقبل المرغوب، وبقوة الإرادة البشرية في امتلاك تأشيرة صالحة لاقتحام هذا المستقبل، ولصناعة الحياة، وديمومة التقدم، وتجاوز المخاطر.
** تَخيُّل المستقبل يُتيح الفرصة أمامنا لقراءة وصف لأحداث المستقبل غير المتوقعة والتي أطلق عليها مفكرون اسم «البجع الأسود».
** ومن أسف، فقد غاب هذا المفهوم عن معظم دوائر السياسة والاجتماع والإعلام والبحث في عالمنا العربي، خلال العقدين الماضيين، والتي اعتقدت بأن المستقبل خالٍ من «البجع الأسود»؛لأن البجع أبيض على الدوام.
** وفوجئنا بما سمي بالربيع العربي، وبصعود قوى غير دولاتية (جهادية وتكفيرية مسلحة)، وبتفسخ مجتمعات عربية وسقوط عواصم في دوائر الفشل والانقسام، وتغوّل جيران وأطماع عابرة للحدود، وتفجر أزمات مالية، وانهيارات اجتماعية وصولاً إلى حالة شعبية ورسمية من الإحباط والشلل.
** لم نتخيل المستقبل بشكل صحيح، واستيقظنا على بجعة سوداء تلهو في حدائق منازلنا، وشرفات بيوتنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"