دولة عظمى.. ولكن

00:14 صباحا
قراءة 4 دقائق

لكل منّا، نحن- محترفي وهواة الكتابة في السياسة الدولية- طريقته الخاصة في التحليل ونقل الرسائل وإخفاء مصادرنا وأهدافنا أو الإعلان عنها. خطر على بالي هذا التصريح وأنا أقرأ مقالاً لروبين رايت، أحد نجوم مجلة «النيويوركر» والخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، وبخاصة شؤون إيران ولبنان وجوارهما. وقد تابعت بعض ما كتبت رايت على امتداد سنوات غير قليلة. اختلفنا في الرأي كثيراً واتفقنا في غيره. 
 كتبت هذه السطور تقديماً للكتابة في موضوع يشغلني، وهو انحدار مكانة، وربما مكان، الولايات المتحدة في خرائط النفوذ. وفي حال صحت التقديرات سوف أذهب بجل اهتمامي إلى محاولة استشراف شكل هذه الخرائط في المستقبل القريب وتوزيعات القوة عليها والتحالفات، وبخاصة التحالفات بين الدول إلى جانب تحالفات القوى الجديدة الصاعدة في مجال إنتاج التكنولوجيا وتوظيف المعلومات واستخدامات الذكاء الاصطناعي. 
لا أخفي أنني وجدت في مقال روبين رايت، ما يؤكد أن هاجس الانحدار الأمريكي انتقل إلى صدارة الشغل الشاغل لمختلف أعضاء إدارة الرئيس بايدن وقادة المؤسسات.
 روبين تكتب المقال وهي في رفقة الجنرال كينيث ماكينزي، قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، في رحلة أخذتهما إلى العراق وسوريا وأفغانستان ولبنان خلال شهر مارس (آذار) الماضي. من يعرف الكاتبة ويقرأ لها يلمس جوهر المقال وهدفه من سطور تمهد القارئ لحال الانحدار الأمريكي. 
على سبيل المثال تقول السطور الغامضة، والدخيلة أيضاً، أنها والجنرال والفريق المرافق له استخدموا في أكثر من مشوار في هذه الرحلة طائرة مشيدة ومهيأة لنقل أكثر من مئة واثنين وثلاثين تابوتاً، وفي الطائرة أماكن لركاب أحياء. تكاد الكاتبة تقول للقارئ وللرأي العام الأمريكي، مستخدمة هذه الصورة العنيفة والمباشرة في الكتابة، إن بايدن ينفذ ما وعد به في حملته الانتخابية، وهو سحب القوات الأمريكية مهما كلف الأمر بعد أن فقدت حوالي سبعة آلاف قتيل إلى جانب أكثر من أربعة وخمسين ألف جندي هي مجمل خسائر أمريكا البشرية في حروبها في المنطقة. أضيف هنا من عندي معنى مهماً متكرراً في عدد من كتابات أمريكية عديدة، وهو أن أمريكا لم تخرج منتصرة من حرب واحدة من هذه الحروب.
 كثيرون من أبناء جيلي عاشوا مرحلة جاذبية الحلم الأمريكي. تجاوزناها، تجاوزنا الانبهار ببهاء أمريكا وجمالها وغناها. نراها كما تراها أقليات أمريكية على حقيقتها. تعبت أمريكا وتعبنا وهي تلقننا تعاليم الواقعية. نجحت ونجحنا، ولكن خسرتنا أو هي تخسرنا الآن. نحن أيضاً من الخاسرين. كانت في خيالنا نموذج قوة. كانت في المقدمة مرتين خلال أقل من ربع قرن، لتقود العالم نحو مخرج من حربين عالميتين وإعلان نهاية استعمار مكلف ومتخلف. 
 عشت شخصياً بعض هذه الانتصارات العسكرية المبهرة. ولم أعش بعدها انتصاراً يذكر. أذكر جيداً عبقرية كيسنجر التي أخرجت القوات المسلحة الأمريكية من شبه جزيرة الهند الصينية، قبل أن يفترس الفيتناميون ما تبقى على أراضيهم من مقاتلين أمريكيين ومن سمعة للعسكرية الأمريكية. أذكر أيضاً خروجهم غير الكريم في 1983 من لبنان وفي ركابهم سمعة الدولة الأعظم، وهي السمعة التي خرجت ولم تستعد مكانتها في الشرق الأوسط منذ ذلك الحين. 
صدر قرار هيئة المحلفين في قضية مصرع جورج فلويد الشاب الأسود تحت ركبة ضابط شرطة أبيض في مدينة منيابوليس. الضابط مذنب لا شك في الأمر فقد رأينا بعيوننا الشاب وهو يلفظ أنفاسه مستغيثاً بأمه، بينما وقف الضباط البيض لحماية زميلهم من غضب المارين، ورفضهم ما يحدث أمامهم. يومها، أقصد يوم صدور قرار المحلفين، توقعت وقوع مظاهر غضب بين السود تختلف نوعياً عن انتفاضاتهم السابقة، توقعت أيضاً موجات من الترقب والتوتر داخل أوساط الملونين بألوان أخرى غير اللون الأسود. الكثرة غير مطمئنة لنوايا «المؤسسة الحاكمة» التي في نظرها سمحت مجبرة بصدور هذا القرار من هيئة المحلفين.
 القرار بدون شك أثار حفيظة التيارات المتطرفة عنصرياً، وبخاصة التيار الذي تعوّد أن يعلي من نظرية تفوق الرجل الأبيض. هناك صحوة لا تخفى على عين فاحصة تراقب تطورات العلاقات الدولية. صديق من ألمانيا يعمل في مجال المعونات لفقراء العالم تنبأ أمامي بموجة «تشنجات» في دول الغرب التي تستعد لصدام «استعماري» جديد ساحته القارة الإفريقية، نذكر جيداً الصدام الذي وقع في نهاية القرن التاسع عشر وما انتهى إليه، وكنّا من ضحاياه. 
لا أتصور صداماً جديداً، ومن أطرافه إلى جانب أوروبا أمريكا وروسيا والصين، سيكون أقل تأثيراً في تطور السلم والأمن الدوليين. أتوقع للأسف أن تكون أمريكا الساحة التي تجري فوقها المعركة الحاسمة التي سوف تقرر مصير نظرية تفوق الرجل الأبيض. لن أكرر ما يفعله محللون في الغرب والشرق معاً، فأقلل من خطورة ومصير موجة العنف الراهنة في الولايات المتحدة ضد الأمريكيين من أصول آسيوية، أو أقلل من شأن الموجات المتقطعة ضد الوجود الإسلامي في القارة الأمريكية. 
الجيش الأمريكي ينسحب ولم ينتصر. صورة أمريكا تغيرت. بدت في أكثر من صورة التُقطت لها في السنوات الأخيرة دولة عظمى ضعيفة. يسألوننا، هل حقاً أمريكا، في نظر الآخرين، دولة ضعيفة حتى وهي عظمى؟ الدول العظمى ضعيفة في نظر الآخرين إذا أنهكت نفسها في حروب خارجية لا طائل من ورائها، ولا تحقق مكسباً واضحاً. 
 نعم، أمريكا دولة عظمى ضعيفة. خرجت أمريكا من عهد ترامب ضعيفة أو لعلها كانت ضعيفة من قبله، وتحديداً منذ وقعت في وهم القطبية الأحادية، الوهم الذي حرضها على الدخول في حرب ضد أفغانستان ثم العراق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"