لنحتفل باليوتوبيا

00:45 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

لماذا ينظر بعض البشر إلى العالم من خلال نظّارة سوداء؟ ولماذا تنتاب البعض الآخر أحاسيس دراماتيكية تجاه ما يدور حولهم؟ ولماذا يؤمن فريق ثالث بأن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ؟ يطرح هذه الأسئلة الكثير من المفكرين عبر مناهج وأدوات تحليلية تعتمد على مداخل نفسية وتاريخية وفلسفية، ويخرجون بنتائج تختلف حسب المبادئ والمعتقدات السياسية لكل منهم. ولكن السويدي هانس روسلينج في كتابه «الإلمام بالحقيقة» يؤكد أن العالم يتحسن بصورة غير مسبوقة، بل إن القارئ للكتاب سيشعر بأن روسلينج يصور له أننا أصبحنا على مرمى حجر من «اليوتوبيا» (المثالية)، فالتقدم الذي يحرزه البشر في مختلف الحقول لم يدع مجالاً للمؤلف إلا دعوة قرّاءه للاحتفال قريباً بتلك «اليوتوبيا».

 ويستند روسلينج في تفاؤله إلى أرقام وإحصاءات تتعلق بمعدلات الفقر، ومتوسط العمر، وانتشار التعليم، وتحسن الصحة، واختفاء وشيك للجوع..إلخ، ويسخر من أولئك الذين يحذروننا يومياً، من عواقب الفقر والبؤس والحرمان، وعبر الأرقام يصفهم بالمخطئين أصحاب النظرة الكلاسيكية العتيقة المؤدلجة.

فبخلاف ما يعتقدونه ويردّدونه ويدفعنا إلى اليأس، كان 85% من البشر يعيشون في عام 1800 تحت خط الفقر، وهذه النسبة انخفضت اليوم إلى 15 %، ويقوم بالمقارنات نفسها في العديد من مفاصل الحياة الأخرى.

 الحياة البشرية إذاً، تسير نحو الأفضل، وهي مسألة فيها نظر، وإشكالية إلى حد كبير، فإذا تناولنا لغة الإحصاءات التي يدافع عنها روسلينج، وغيره، فسنجد أننا ربما نُخدع بنسبة 15 % أولئك الذين يعيشون تحت خط الفقر، وننسى أنهم مليار إنسان محرومين من أبسط أساسيات الحياة، فإذا عدنا إلى عام 1800 الذي يقارنه دوماً بالراهن، سنلاحظ أن عدد سكان الأرض آنذاك كان على مشارف المليار نسمة، وهو عدد الفقراء الآن.

 ويبقى السؤال الأهم: هل الفقر كلمة اقتصادية فقط، تخلو من أي قيمة أو شعور؟ وبالتالي يمكن قياسها رياضياً؟ وهل فقير اليوم هو فقير الأمس نفسه؟ قد يقارب بعضهم مفهوم «الفقر» في إحصاءات ترصد ما يجب أن ينفقه الفرد في اليوم، وتمتعه بماء نظيف، وكهرباء، وشبكة إنترنت، وتعليم جيد، ولكن ما لا يدركه هؤلاء، هو الإحساس بالفقر، وحزمة السلبيات المرافقة له، لقد أفنى بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء حياتهم في مكافحة الفقر انطلاقاً من تأثيره الكابوسي في الروح، مع الأخذ في الاعتبار أن الفقير في الماضي كان يعيش في عزلة، ولم يكن على اطلاع دائم عبر وسائل الإعلام على تلك الحياة المرفهة التي يعيشها البعض، بما يتسبب في تضخم شعوره بالدونية.

 وإذا تأملنا الجانب الآخر من الصورة، والمتمثل في الشرائح المخملية والوسطى في مختلف المجتمعات البشرية، بإمكاننا رصد الكثير من المظاهر التي تؤكد وقوع هؤلاء في فخ التعاسة، نتيجة للضغوط النفسية التي تتميز بها المرحلة الراهنة من الرأسمالية، والتي أدخلت الجميع في سباق محموم من أجل تحسين الحياة، بما يعني أن «اليوتوبيا» ستظل فكرة خيالية عصية على التحقق، أو حتى القياس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"