مفارقات مصير التصوف

00:07 صباحا
قراءة دقيقتين

أليس غريباً أن التصوف محفوف بالالتباسات في العالم العربي؟ الالتباس ملتبس إلى حدّ أن أغلبية من تطرق سمعهم هذه الكلمة، لا يعرفون حقيقة السؤال والموضوع. هذا ينصرف ذهنه إلى الدراويش، وذاك ينجرف تصوّره إلى حفلات الزار، وذلك ينحرف خياله إلى ضروب من الشعوذة. كيف تبخّر كل الميراث الصوفيّ الذي شعّت تجلّياته طوال قرون؟ طارت به العنقاء.
ثمّة رأي في القضيّة، لولا جانب الدعابة فيه، لكان جديراً بالوقوف على أطلاله لتأمّل ضياع القيم حتى بين أهل الثقافة الذين غالباً ما يدّعون أنهم الوحيدون الذين يحافظون عليها. يقول القلم سامحه الله: ما حدث لروائع الميراث الصوفي في العالم العربي يشبه تماماً ما حدث لكتاب «أصل الأنواع» لتشارلز داروين، الرجل لم يقل إن أصل الإنسان قرد، ولكن لسوء حظه، أطلق الشائعة شخص لم يقرأ الكتاب، أو توهّم أنه قرأه، فسرت كالنار في الهشيم. تعال الآن وقل إنه لم يقل. شيء من هذا القبيل، هذا الداء الوبيل، أصاب الفلسفة أيضاً. سوء الفهم غالباً ما يمرّ كالرمية الطائشة، لكنه يصبح أحياناً السهم والملح على الجرح في آن. القلم، احتراماً للمتصوفة، آثر أن يتكلم بالرمز.
الثقافة عوالم من القيم النسبيّة في كل الاتجاهات.غير أن فيها نظريات كأنها قوانين فيزيائية لا ريب فيها. مثلاً: لا وجود لمجتمع بشريّ لا موسيقى له. خذها مسلّمة ولا توحش الذهن بعناء التحقيق. كذلك: لا وجود لدين لم تنشأ منه تيارات صوفيّة. ديانة سماوية، معتقد وضعي، لا بدّ من ظهور حركات صوفية، عرفانية. ههنا، ههنا بالذات، لا مفرّ لتلك المجتمعات (أو الجماعات) الصوفية من انبثاق موسيقي مصاحب، بالآلات، بالآلات الإيقاعية، بمجموعة صوتية حنجريّة. السبب واضح، وهو أن ذلك التميّز والتفرّد والخصوصية في المضمون، تفرض تلقائياً شكلاً موسيقياً، تناغميّاً، تناسقيّاً، تناسبيّاً، ذوقيّاً، روحيّاً، يكون مختلفاً عن المعهود المألوف في أشكال الموسيقى المعهودة، وأجناسها المألوفة.
هل انقدنا إلى السؤال البديهي؟ هل تكاملت في البلاد العربية موسيقى صوفيّة، تجلّت في فرق متألقة، لها موسيقيون متخصصون، وأعمال متوهجة؟ نصطدم دائماً بالأسطوانة المشروخة نفسها في البعكوكة ذاتها، العثرة المادّية: من المجنون الذي يجرؤ على تجارة التهلكة هذه؟ من الأبله الذي سينفق المال اللبد، في مشروع لا سند له ولا مدد. مدد، مدد، مدد.
لزوم ما يلزم: النتيجة العرفانية: عرفاناً بجميل ذهب السكوت، يفضل عدم إطلاق فضّة الكلام.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"