الإقامة في الأرقام الدوّارة

01:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

تجاوز الخطاب/الكلام/السلوك اللبناني الشعبي والرسمي كل الحدود، بحيث تركض الغرائز أمام العقول والأعناق ممطوطة نحو الخلف. للحبر أن يعتذر من القارئ في نقل الكوارث المتراكمة هنا، وعلى إيقاعات التواريخ القاسية وكأن الدماء لم تيبس في الجروح القديمة. نعيش في 2021 مسترجعين 1975، تاريخ نشوب الحروب الأهلية التي دمرت لبنان وأنهكت العرب والعالم بلا هوية، بين أن تكون أهلية أو طائفية وصولاً إلى «ثورة 17 أكتوبر 2019» الفاشلة نتيجة السقوط المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي، ثم انفجار مرفأ بيروت في 7 أغسطس/آب 2020، مروراً بعام الانقسام الشامل في 1988، حيث اتفاق الطائف عام 1989 الذي لم يأخذ مطرحه الوثير بالممارسة، لينقسم اللبنانيون مجدداً بين 8 و14 آذار، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وسلسلة من الاغتيالات التي هزت البلاد من جذورها. 

تاريخ من الإقامة في الأرقام الدوارة مثل أحجار المطاحن وتدريبات على السلاح لدى بعض الأحزاب في أكثر من ناحية، ومحاولات تأمين الكهرباء والمواد المعيشية للطوائف المتفرقة والمتباعدة تجديداً للإدارات المدنية، وتقاعس في تلقيح اللبنانيين خلافاً لإسرائيل التي لقحت مواطنيها استباقاً لأي حرب قد تحصل.

هذه الحياة المُرة في لبنان تبسط أمامنا تاريخاً ممطوطاً محكوماً بالخارج. وعندما تكون السياسات والمبادرات في دوائر الخارج؛ أي خارج، وتسوّى أو تُعدل وفقاً لأهواء الخارج ومصالحه المتبدلة الكثيرة، يمكن القول إن معظم الأطروحات والأفكار أو المشاريع السياسية التي تضمن الاستقرار مجوفة.

نبحث إذن عن طاولات الحوار نجدها مستعصية. الكلام والإعلام ملتهبان والتداعيات في التصريحات كيدية طافحة بالشتائم والاتهامات المتبادلة. إننا في الواقع في حروب حقيقية قوامها التصريحات والتصريحات المضادة التي تنحسر معها فسحة المستقبل، فيظهر الوطن مجدداً، زاداً لانقساماتٍ وملعباً مؤذياً ينتظر الدول الإقليمية بالتفاهم مع الدول الكبرى.

هل تنفع الدبلوماسية المستوردة في إشاعة الرطوبة والحرارة في تضاعيف لبنان؟

خلافاً لما يظن البعض القابض على وسائل القرار أو الإعلام بأن الحركة الدبلوماسية الغربية الناشطة من القارات الأربع في هذه الفترة نحو بيروت، قد تُسهم في تليين تلك اليبوسة التي تتحكم في مفاصل الحوار والقرار السياسي في لبنان الذي ينسف أبسط الأسس المرتبطة بالأمن والاستقرار، فإنها دبلوماسية قد تؤدي إلى ضغوط وتنازلات ومراهنات أو وعود لم ولن يقوى أي مسؤول لبناني على الإيفاء بها.

إن أي اتفاق، حتى اتفاق الطائف (وقد جاء برعايات دولية وإقليمية) لم يحسم الصراعات المزمنة، ولم يكن لكل اللبنانيين حضور فيه؛ لذا لم يقو على التطبيق والاستمرار والعيش إلا بضغوطات غير لبنانية. ولو أخذنا المسألة الدبلوماسية الكبرى التي نعني بها السلام في المنطقة العربية والتي تؤلف لبّ الأنشطة الدبلوماسية الغربية، بشكل عام، لقلنا إنها دبلوماسيات قد تؤدي إلى تسويات محتملة للصراع العربي الإسرائيلي، لكنها قابلة للنقض والمتاعب الكبرى؛ لأن السلام يفترض رضا الشعوب، كما قال الرئيس سليم الحص ، ضماناً لما قد تُفرزه تلك البرامج والمشاريع الدولية. لنقل بإيجابية مطلقة إن الدبلوماسية فنون ناعمة ضرورية في العلاقات الدولية، تلتمس في عدتها تدوير الزوايا والحوار، لكنها سرعان ما تتحول معضلة إن التمست الضغوط والتدخل في حياة الدول وتفاصيل حكمها، خوفاً من تحولها إلى وصايات جديدة خفية يدرسها أبناؤنا في كتب التاريخ.

يسير لبنان، إذن، في اتجاه خطر جداً، لا سيما وأن الانقسامات السياسية والفراغات الهائلة بين قصر بعبدا، وبيت الوسط، تسرع الخطى المعقدة في كل المجالات السياسية والاجتماعية وترهل الإدارات، بما يزيد من استفزاز بعض الفئات وتهميشها. البلد مشلول وفي حالة ترقب وانتظار بالدقائق، لهذا نظن أنه ما لم يتم تجاوز هذه الأزمات المستفحلة المتلاحقة التي لا مثيل لها، بتسوية سريعة من التسويات الكثيرة التي ربما تطبخ في أكثر من مكان، فإننا واصلون إلى فوضى عارمة واسترجاع فعلي لتلك التواريخ التي أدرجناها مجتمعة في بداية هذا المقال. 

نحن في الطريق الواضح لتجاوز مطالب التعديلات في الدستور وتفسيرات المبهم منه خلال الحكم، في ساحة مستباحة تُطرح فيها أفكار مثل تفكيك المركزية نحو لامركزيات موسعة جداً في الحكم أو الحياد الشامل، ولربما الجزئي في المناطق المتنوعة التي يتهامس بها والتي تنتظر «فرش» سجاداتها الحمراء، ولو كان الكلام موصوماً بالمرتجل، لكنه المتجدد، مطالباً بالفدراليات والتقسيمات وغيرها من الأفكار المرتجلة التي تقتضي الفوضى، واللبنانيون أمهر من غيرهم في معرفة نتائجها التي تعيدنا 45 سنة ونصف سنة، أعني 13 نيسان/أبريل 1975 لا سمح الله.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"