الذكريات الصغيرة

00:13 صباحا
قراءة دقيقتين

حاولت، دون جدوى، أن أتذكر اسم الفيلم الذي شاهدت فيه المشهد الذي سآتي عليه الآن. حيز الذاكرة ملتبس ومربك، فهي لا تحتفظ إلا بالنزر اليسير مما عشناه وشاهدناه، خاصة عندما يتصل الأمر بالتفاصيل، لا الأحداث الفاصلة في حيوات البشر، أو تواريخ البلدان والمجتمعات، كالحروب والفواجع والكوارث التي لا تنسى.
المشهد الذي عنيت كان عن رجلٍ وحيد في غابة، لعله قد ضلّ الطريق، أو أنه فقد رفيقاً أو رفيقة له أثناء رحلته، صحا ذات صباح باكر على مشهد في غاية الفتنة والجمال، حين رأى خيوط النور تنسل من بين أشجار الغابة، فقال لنفسه: «أكلّ هذا الجمال لي؟»، قبل أن يتمتم بما معناه: «يحدث أن يأتي الجمال في غير وقته».
تذكرتُ هذا وأنا أقرأ للكاتب البرتغالي الشهير، الحائز على «نوبل للآداب»، جوزيه ساراماجو (1918 – 2010)، قولاً يرى فيه «إن الشعور الناتج عن تأمل منظر طبيعي يتوقف دائماً على التغيرات المزاجية وروح البهجة أو السوداوية التي تتحرك بدواخلنا حين تقع عيوننا على هذا المنظر»، كأنه يحملنا على الاعتقاد بأن المنظر الذي تراه أعيننا جميلاً، ونحن في حال من السعادة والبهجة قد لا يكون، هو نفسه، جميلاً في أعيننا لو رأيناه ونحن في مزاج سوداوي أو في حالٍ من الإحباط والخيبة أو الحزن.
هذا القول لساراماجو الذي اعتبره أحد النقاد قبل أن يتوفى الكاتب «أعظم الروائيين الموجودين على قيد الحياة»، جاء في كتابه «الذكريات الصغيرة»، الذي هو بمثابة سيرة ذاتية للكاتب، أو على الأقل جوانب من هذه السيرة، وأصدرت «دار الجمل» ترجمة له من وضع أحمد عبداللطيف، ويثير فضولنا أو يشدّنا العنوان الذي اختاره ساراماجو لكتابه، أي «الذكريات الصغيرة»، لأنه يطرح أمامنا، وبصورة تلقائية السؤال عما إذا كانت الذكريات قسمين أو نوعين: ذكريات كبيرة وأخرى صغيرة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الفرق بينهما، أو ماذا نقصد بكل نوع منها ؟ أتكون «الذكريات الصغيرة» هي نفسها التي عنينا بها التفاصيل، فيما الكبيرة هي تلك الأحداث الجسام التي لا تنسى؟
ربما تكون الإجابة بنعم، ولكن هل بالوسع استعادة الذكريات الكبيرة من دون تفاصيلها، أي من دون أن نحكي الذكريات الصغيرة المحيطة بها؟ أليست السيرة الذاتية هي في الأخير حكياً للتفاصيل التي توارت عن الذاكرة النشطة، وغفت في قيلولة أو حتى غيبوبة؟ ربما هذا ما عناه ساراماجو الذي بحث عن كائن كان هو ذاته نفسها، لكنه أدرك أنه تركه «في مكانٍ ما من الزمن»؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"