عسر التقدم

00:12 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

لكي تترسخ فكرة جديدة في صلب أي ثقافة، لابد أن تسري في مفاصل تلك الثقافة، وأن يدور حولها نقاش مجتمعي عام، سواء بالرفض أو القبول، وتكتب حولها النخبة ويستلهمها الجميع.

استهجن البعض في العالم العربي أخباراً تم تداولها وانتشرت بكثافة خلال جائحة كورونا بصفة خاصة، تدور حول مقترحات يفكر فيها أفراد أو مؤسسات في الغرب بوضع شرائح إلكترونية داخل رأس أو جسد الإنسان، ولكن في الواقع هذه المقترحات لم تكن مجرد مجموعة أفكار خيالية أو تنتمي إلى نظرية المؤامرة، ولكنها تعود إلى سنوات ماضية، شهدت صدور العديد من الكتب التي تتناول هندسة «السايبورج»، وتقوم على إدماج أجهزة إلكترونية في الأجساد الحية، أو وضع روبوتات «نانوية» داخلها لتشخيص الأمراض، ويتوقع تطبيقها في المستقبل على البشر، البعض يرجح خلال العقود القليلة القادمة. فلم يعد إنسان المستقبل هو الإنسان الأعلى أو المتفوق بتعبير نيتشة أو «السوبرمان» في أفلام «الكوميكس»، ولكنه الإنسان «السايبورج» الذي يمكن تزويده بعيون وأرجل إلكترونية.

الملاحظ أن هذه الأفكار ليست معزولة في المختبرات والكتب المتخصصة، ولكن المتابع للسينما سيجد عشرات الأفلام التي انتجت خلال العقود الأخيرة تتحدث عن هذا الإنسان، إضافة إلى نقاشات قانونية وأخلاقية وفلسفية حول هذا التطور. نقاشات وصلت حتى إلى الاقتصاديين، فبعض هؤلاء رأوا في «السايبورج» حلاً مؤقتاً، لمصير مظلم كان ينتظر البشر نتيجة لإحلال الروبوتات مكان البشر في مختلف المهن، هذا الإحلال كان سيصيب الأسواق بالركود، ونظراً لأن دورة رأس المال تعتمد على الإنفاق، والروبوت لا ينفق، فإن الرأسمالية تراجعت وركزت الأبحاث والمختبرات على تزويد البشر بأدوات تسهم في زيادة الإنتاج وتجويده، مع الحفاظ على طبيعتهم، بما يخدم الاستهلاك ودوران عجلة الاقتصاد في السوق.

هذه النقاشات العابرة لفئات وطبقات المجتمع، نجدها هناك؛ بل نعثر على جذورها في روايات وكتب تنبأت بما نشاهده الآن منذ عقود؛ أي أن هناك خلفية معرفية قوية لمن يتحاور حول هذه الأفكار.

لا تبشر الحالة الثقافية في معظم أرجاء العالم العربي بأي خير، فالمتابع لمواقع التواصل وحتى لبعض الكتابات، يشعر بأننا فوجئنا، وربما أصابنا الخوف، باقتراح الشرائح الإلكترونية، ما أدى إلى رواج هائل لنظرية المؤامرة وأحاديث ضبابية وكابوسية عن المستقبل. 

ومما زاد من حدة المفاجأة تزامنها مع كورونا، وتصوير تلك الشرائح على أنها أدوات للرقابة، مع أن مستخدمي مواقع التواصل يعلمون أكثر من غيرهم أن «جوجل» ومشتقاته يعرفون عنهم ربما أكثر مما يعرفونه عن أنفسهم؛ الأمر الذي يدعو إلى السؤال حول أسباب تلك المفاجأة. هل تعود إلى أننا لا نُنتج العلوم؟ ولكننا نستوردها ونستخدمها ونقرأ عنها ويتفوق بعضنا فيها.

أعتقد أن هناك ظاهرة إشكالية في الثقافة العربية على الجميع التفكير فيها، وهي أنها ثقافة نخبوية، فما ينتج أو حتى يستورد من أفكار  لعوامل عديدة  لا يتم تداوله مجتمعياً، ولا يؤثر إلا في أقلية، ومن هنا عسر التقدم البعيد عن المنال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"