إيقاع التغيير الاقتصادي.. العلاج بالصدمة

22:08 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي

إذا ما علمنا ما الخطوات الواجب اتخاذها للإسراع بالنمو الاقتصادي، لماذا لا نخطوها كلها دفعة واحدة؟ هذا بالضبط جوهر السؤال الذي أجاب عنه بحزم أولئك الذين نصحوا أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق باعتماد نوع من «العلاج بالصدمة» بعد سقوط جدار برلين كان الشعور السائد هو أن الهوة بين التخطيط المركزي واقتصاد السوق لا يمكن عبورها إلا بقفزة واحدة، وأن الظروف التاريخية قد وفرت اللحظة الحاسمة. أو نافذة لفرصة ضيقة لفرصة إحداث إصلاح كبير ومستقر، وزعموا أن أي استراحة في هذه العملية ستوفر الفرصة لتشكيل المعارضة. ومن ثم إلحاق الهزيمة بجهود الإصلاح.

وكان الطرح الرئيسي ضد فكرة العلاج بالصدمة وقتذاك أنها قد لا تكون قابلة للحياة سياسياً. سواء عند البدء أم على مدى الفترة المستدامة المطلوبة كي تعمل. وليس من المرجح أن يكون المسؤولون الحكوميون فحسب متمسكين بالنظام القديم (سواء كان التخطيط المركزي أم بقيادة الدولة). وإنما يرجح أن يشاركهم في هذا الموقف تلك الشركات، وعمالها. الذين استفادوا أو يحميهم النظام القائم. ومن المتوقع أن يعارض هؤلاء التغيير منذ البداية. ولكن إذا كانت الظروف مواتية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين. فإن المعارضة عند البدء قد تكون أضعف من أن تمنع حتى تغييراً جذرياً ومن ثم أصبح السؤال هو: بعد تطبيق العلاج بالصدمة هل سيتقبل «المريض» العلاج (وبالتحديد المواطنون الذين عليهم تدبير معيشتهم في هذا الاقتصاد) أم سيرفضه؟

ومع تطور الأحداث قدمت روسيا اختباراً لحيوية العلاج بالصدمة، ولم تكن نتائج هذا الاختبار مشجعة، فقد تم التعامل مع الخصخصة بطريقة أدت إلى وضع كمية غير متناسبة بالمرة من الملكية في أيدي الاوليجاركية، وأدى هذا بدوره إلى إشعال السخط على الساسة والدولة في روسيا، وكان من نتائج هذا (إلى حد بعيد) قيام الرئيس بوتين بإعادة القيادة للدولة. ولا تبدو على السطح نتائج سيئة؛ حيث نما الناتج المحلي الإجمالي الروسي بمتوسط معدل سنوي 7% (2006). ونمت بسرعة في روسيا طبقة عليا، وحتى طبقة متوسطة. تسابقت على شراء السلع الاستهلاكية الغربية. ولكن الاقتصاد الروسي لا يزال يعتمد بقوة على أسعار المواد الأولية التي يبيعها في الأسواق العالمية. خاصة النفط، ولا ريب أن هذا الاقتصاد مدين بالكميات الكبيرة من احتياطيات الثروة لديه للقفزات الكبيرة في أسعار النفط على فترات بعد أن وصلت إلى الحضيض في فترات أخرى. وفي هذا الأثناء، تبدو فوارق الدخول شاسعة ومتنامية، وينصح الخبراء الاقتصاديون الغربيون روسيا بأن عليها أن تجد لنفسها طريقاً، للابتعاد عن سيطرة الدولة باتجاه مركب أفضل من الرأسمالية الريادية إذا أرادت أن تنوع اقتصادها من اقتصاد مبني على المواد الأولية إلى اقتصاد يضمن النمو الثابت ويفيد قطاعات السكان الأوسع.

وفي الحقيقة أن هذا هو التحدي الأساسي الذي تواجهه اقتصادات أخرى اعتمدت على قيادة الدولة، في آسيا أساساً بما فيها الهند. وإذا أخذتا التجربة الروسية في العلاج بالصدمة دليلاً أياً كان، فإن الانتقال كاملاً ومرة واحدة ليس هو الخيار الأفضل، حتى بالنسبة للاقتصادات التي كان أداؤها سيئاً. كما يجب أن نتوقع ضرورة التأييد السياسي للتغيير الجذري، وقد كانت هذه هي الحال في روسيا. ذلك أن التأييد السياسي للعلاج بالصدمة قد ذبل بسرعة حينما تكشف أن الفائزين حفنة قليلة العدد. ولكن مكاسبهم ضخمة للغاية، وقد يزعم البعض أن الأمور كان من الممكن أن تتطور في اتجاه مختلف إذا كان قد أعطى الوقت والاهتمام الكافيين لضمان انتشار الملكية على نطاق واسع، لكن حتى إذا تحقق هذا الهدف لكان النجاح مؤقتاً أيضاً، لأنه سيكون من المتوقع عندئذ أن يستثمر بعض المالكين بقوة لجمع حصص أكبر من أسهم منشآتهم، و من ثم إعادة تركيز الملكية. جملة القول إن الدرس الذي نستخلصه من تجربة الخصخصة الروسية هو أن الرأسمالية - بمكافآتها الكبيرة للناجحين - تنطوي حتماً على قدر مفهوم من اللامساواة، لكن إذا بلغت اللامساواة مستويات كبيرة جداً فإن هذا يمكن أن يشعل السخط عليه. وإذا كان العلاج بالصدمة لن يكون مستداماً بشكل عام إذا طبق في البلدان النامية وذات الأسواق الناشئة، فما البديل؟ يتلخص اقتراح بعض كبار الاقتصاديين في شكل ما من التغيير التدريجي، أو رأسمالية ريادية الأعمال عند الهامش. والفكرة هنا هي تشجيع ريادية الأعمال مع عدم ضرورة تفكيك ذلك الجزء من الاقتصاد المعتمد على قيادة الدولة.

أما ابتعاد الصين عن التخطيط المركزي، فقد يقدم لنا أفضل مثال على النهج التدريجي. فبدلاً من خصخصة كل المنشآت المملوكة للدولة - بما فيها البنوك – مرة واحدة على الطريقة التي تمت في روسيا، ترك القادة الصينيون المنشآت المملوكة للدولة تعمل مدعومة بالقروض المستمرة من البنوك المملوكة للدولة أيضاً. بيد أن الحكومة المركزية سمحت في الوقت نفسه للحكومات الإقليمية والبلدية، والأفراد أيضاً، بإقامة مشاريعهم الخاصة، وكانت الاستراتيجية هي ترك شتلات المشاريع الجديدة تنمو إلى جانب غابة المنشآت المملوكة للدولة، على أمل أن تصبح المشاريع الجديدة أكثر أهمية للاقتصاد عملياً من المنشآت المملوكة للدولة. وهذا هو ما حدث بالضبط، فبينما كان كل الناتج المحلي الإجمالي تقريباً تنتجه المنشآت المملوكة للدولة حتى الثمانينات، وأصبح ثلثا الناتج الصيني من إنتاج المنشآت الخاصة. أما متوسط معدل النمو الملحوظ للناتج في الصين خلال هذه الفترة فلم يكن له أي نظير في العالم.

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"