عادي

ابن الصوري.. مؤسس علم النبات الحديث

00:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
1

‏مع بداية القرن الخامس الميلادي كان العالم يعيش في ظلمات من الجهل والتخلف، فمع وهن الإمبراطورية الرومانية وتفتتها، بدأت العصور الوسطى المظلمة التى اتسمت باضمحلال العلوم وانتشار الخرافة والمتوارثات الشعبية الأسطورية. وفي خضم هذا السواد الحالك لاح في الأفق نور يبدد ظلام الجهل لتبزغ شمس الحضارة الإسلامية، حيث كان المسلمون يعيشون حياة الازدهار والرقي، وشهدت القرون الوسطى تقدماً فريداً في كل العلوم والمجالات، خاصة الفلك والطب والفلسفة ، وغدت بلاد المسلمين مقصد العلماء وطلاب العلم، حيث العدل والحرية اللذان مهدا الطريق أمام العلماء للبحث والمعرفة ووضع أسس المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج وإعمال العقل ليظهر جيل جديد من العلماء الذين وضعوا اللبنات الأولى للتطور العملي الحديث.

ولد‏ ‏رشيد‏ ‏الدين‏ ‏بن‏ ‏أبي‏ ‏الفضل‏ ‏بن‏ ‏علي‏ ‏الصوري، ‏المشهور‏ ‏بالصوري‏ ‏أو‏ ابن‏ ‏الصوري‏، ‏ في‏ ‏صور‏ ‏عام‏ 1177‏ ميلادية، وتوفي‏ ‏في‏ ‏دمشق‏ ‏عام‏ 1241‏م‏. ‏ولم‏ ترد معلومات كافية عن نشأته العلمية في كتب‏ ‏التراث‏ والتي‏ ‏أرخت‏ ‏لعلماء‏ ‏العرب‏ ‏والمسلمين‏ ‏في‏ ‏العالم‏، ‏ولم‏ تذكر سوى‏ ‏أنه‏ ‏درس‏ ‏علوم‏ ‏الأوائل‏ ‏دراسة‏ ‏متأنية، ‏وأنه‏ ‏كان‏ ‏واسع‏ ‏الاطلاع، ‏دقيق‏ ‏الملاحظة، ‏غزير‏ ‏التجارب‏ ‏والبحوث، ‏سريع‏ ‏الإنتاج‏، ‏نشأ‏ ‏في‏ ‏صور‏ ‏بالشام، ‏وتنقل‏ ‏فيما‏ ‏بين‏ ‏بعض‏ ‏المدن‏ ‏بالعالم‏ ‏العربي، ‏وعاد‏ ‏إلى‏ ‏دمشق‏ ‏التي‏ ‏درس‏ ‏الطب‏ ‏فيها‏ ‏على‏ ‏أيدي‏ ‏كبار‏ ‏العلماء، ‏كموفق‏ ‏الدين‏ ‏عبد‏ ‏اللطيف‏ ‏البغدادي‏ وغيره‏. ‏

اهتم‏ ‏رشيد‏ ‏الدين‏ ‏الصوري‏ ‏بدراسة‏ ‏النباتات‏ ‏المختلفة‏ بشكل دقيق، ‏تضمن‏ توثيق النبات‏ ‏في‏ ‏جميع‏ ‏مراحل‏ ‏عمره، ‏منذ‏ ‏البذرة‏ ‏وحتى‏ ‏الجفاف، ‏وكان‏ ‏يصحب‏ ‏في‏ ‏رحلاته‏ ‏الميدانية‏ ‏رساما‏ً ‏لهذا‏ ‏الغرض، ‏و‏وضع‏ ‏هذه‏ المعلومات ‏التي‏ ‏لم‏ ‏يسبق‏ ‏لعالم‏ ‏أن‏ ‏أنجزها‏، ‏في‏ ‏كتابه‏ «الأدوية‏ ‏المفردة»، ‏الذي‏ ‏‏اشتمل‏ ‏على‏ 585 ‏عقاراً، ‏منها‏ 466 ‏عقار‏اً ‏من‏ ‏أصل‏ ‏نباتي، 44 من‏ ‏أصل‏ ‏حيواني، 75 ‏عقار‏اً ‏من‏ ‏أصل‏ ‏معدني، ‏ورافقت‏ الرسومات الملونة تعليقات‏ ‏وفوائد‏ ‏طبية‏ ‏كثيرة‏. وتحدث ابن أبي أصيبعة عن كتاب الصوري قائلاً: استقصى فيه ذكر الأدوية المفردة، وذكر أيضاً أدوية اطلع على معرفتها ومنافعها لم يذكرها المتقدمون، وكان يصطحب رساماً ومعه الأصباغ والليق، على اختلافها وتنوعها، فكان يتوجه رشيد الدين الصوري، إلى المواضع التي بها النبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع، فيشاهد النبات ويحققه ويريه للرسام، فيحدد لونه، ومقدار ورقه وأغصانه، وأصوله، ويجتهد في محاكاتها، ثم أنه سلك أيضاً في رسم النبات مسلكاً مفيداً، وذلك أنه كان يري النبات للرسام إبان إنباته وطراوته، فيرسمه، ثم يريه إياه وقت كماله، وظهور بذره، وفي وقت يبسه، فيرسمه.

وكان‏ ‏رشيد‏ ‏الدين‏ ‏الصوري‏ ‏في‏ ‏دراسته‏ ‏للنباتات‏ ‏يتبع‏ ‏المنهج‏ ‏العلمي‏ ‏الذي‏ ‏يتبعه‏ ‏العلماء‏ ‏في‏ ‏القرن‏ ‏العشرين‏ ‏الميلادي‏، ‏أي‏ ‏أنه‏ ‏سبق‏ ‏علماء‏ ‏الغرب‏ ‏في‏ تأسيس المنهج‏ ‏العلمي‏ ‏الحديث‏ ‏في‏ ‏عالم‏ ‏النبات‏ ‏بسبعة‏ ‏قرون‏، ‏وكانت‏ ‏دراسته‏ ‏لنباتات‏ ‏الشام‏ ‏دراسة‏ ‏رائدة‏.‏ وإضافة‏ ‏إلى ‏عالم‏ ‏النبات‏ ‏الذي‏ ‏نبغ‏ ‏فيه،‏ تفوق أيضا‏ً ‏في‏ ‏الطب، ‏حتى ‏أنه‏ ‏عمل‏ ‏طبيبا‏ً ‏للملك‏ ‏العادل‏ ‏أبوبكر‏ ‏بن‏ ‏أيوب‏، واصطحبه‏ ‏معه‏ ‏إلى‏ ‏مصر‏ ‏والقدس، ‏ولما‏ ‏مات‏ ‏عمل‏ ‏طبيبا‏ً ‏لابنه‏ ‏الملك‏ ‏المعظم‏ ‏عيسي‏ ‏بن‏ ‏أبي‏ ‏بكر، ‏ولما‏ ‏مات‏ ‏عمل‏ ‏طبيبا‏ ‏لابنه‏ ‏الملك‏ ‏الناصر‏ ‏داود‏ ‏بن‏ ‏الملك‏ ‏المعظم‏، ‏ثم‏ ‏عاد‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏الرحلة‏ ‏الطويلة‏ ‏إلى‏ ‏دمشق‏ ‏فأقام‏ ‏بها‏ ‏حتى‏ ‏وافته‏ ‏المنية‏. ‏وكان‏ ‏العلماء‏ ‏يطلقون‏ ‏عليه‏ ‏لقب‏ عميد‏ ‏أطباء‏ ‏دمشق.‏

كان‏ الصوري‏ ‏عالماً‏ ‏مخلصاً‏ ‏في‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏الحقيقة‏ ‏العلمية، ‏يقضي‏ ‏وقته‏ ‏كله‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏هذا، ‏فصيح‏ ‏اللسان‏ ‏عذب‏ ‏البيان، ‏وكان‏ ‏طلاب‏ ‏العلم‏ ‏والطب‏ ‏يفدون‏ ‏إليه‏ ‏في‏ ‏دمشق‏ ‏من‏ ‏كل صوب‏ ‏وحدب، ‏وكان‏ ‏له‏ ‏مجلس‏ ‏خاص‏ ‏بالطلاب‏ ‏الذين‏ ‏تتلمذوا‏ ‏عليه‏ ‏في‏ ‏علوم‏ ‏النبات‏ ‏والطب‏ ‏وغيرها‏. ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏أسهم‏ في‏ ‏خدمة‏ ‏وعلاج‏ ‏المرضى‏ ‏إبان‏ ‏الحروب‏ ‏الصليبية‏ ‏حين‏ ‏إقامته‏ ‏في‏ ‏القدس‏.‏

يذكر‏ ‏قدري‏ ‏طوقان، ‏توفيق‏ ‏الطويل‏، ‏عز‏ ‏الدين‏ ‏فراج، ‏أحمد‏ ‏شوكت‏ ‏الشطي‏، ‏عمر‏ ‏رضا‏ ‏كحالة، ‏أنور‏ ‏الرفاعي، ‏أسعد‏ ‏داغر، ‏خير‏ ‏الدين‏ ‏الزركلي، ‏وابن‏ ‏أبي‏ ‏أصيبعة، ‏كلاماً‏ ‏في‏ ‏مآثر‏ ‏رشيد‏ ‏الدين‏ ‏الصوري، ‏وأحياناً‏ ‏نزراً‏ ‏يسيرا‏ً ‏عن‏ ‏مؤلفاته، ‏وأكدوا‏ ‏أنه‏ ‏طور‏ ‏علم‏ ‏الأدوية‏ ‏المفردة، ‏وأضاف‏ ‏في‏ ‏مجال‏ ‏النباتات‏ ‏الطبية‏ ‏إضافات‏ ‏مهمة‏ ‏جدا‏ً ‏إلى‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏معروفا‏ً ‏عند‏ ‏العرب‏ ‏والمسلمين‏ ‏ومن‏ ‏قبلهم‏ ‏عند‏ ‏اليونان‏.‏

وإذا‏ ‏أردنا‏ ‏أن‏ ‏نضع‏ ‏رشيد‏ ‏الدين‏ ‏الصوري‏ ‏في‏ ‏فئة‏ ‏معينة‏ ‏من‏ ‏فئات‏ ‏العلماء‏ ‏الأعلام، ‏فإنه‏ ‏علامة‏ ‏النبات، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏عالماً‏ ‏في‏ ‏الصيدلة‏ ‏والطب‏. وإذا‏ ‏كنا‏ أشرنا‏ ‏إلى‏ ‏كتابه‏ ‏الشهير‏ «الأدوية‏ ‏المفردة»، ‏فإن‏ ‏له‏ ‏عدداً‏ ‏من‏ ‏الكتب، ‏منها‏ ‏مثلا‏ً: «تعاليق ووصايا طبية»، وكتاب الرد على كتاب التاج للغاوي في الأدوية المفردة، وكتاب تذكرة الكحلين أو الكافي في طب العيون وهو مخطوطة موجودة في مكتبة الأسد بدمشق، والشامل في الأدوية المفردة ومخطوطة هذا الكتاب موجودة في مكتبة أحمد الثالث في مدينة إسطنبول، ورد ذلك في أبحاث المؤتمر السنوي العاشر لتاريخ العلوم عند العرب، وربما كان كتاب «الشامل في الأدوية المفردة» هو كتاب «الأدوية المفردة» نفسه الذي ذكره ابن أبي أصيبعة. وضاع‏ ‏معظم‏ ‏كتبه، ‏ولم‏ ‏يتمكن‏ ‏العلماء‏ ‏إلا‏ ‏من الوقوف‏ ‏على‏ ‏قلة‏ ‏نادرة‏ ‏منها، ‏إضافة‏ ‏إلى‏ ‏اقتباس‏ ‏علماء‏ ‏الغرب‏ ‏كثيرا‏ً ‏من‏ ‏إنتاجه‏ ‏وأفكار‏ه‏.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"