النموذج التنموي والعدالة بالمغرب

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. إدريس لكريني

أطلق المغرب خلال السنوات الأخيرة نقاشاً عمومياً واسعاً لتجديد وتطوير نموذجه التنموي، حيث دعا الملك محمد السادس في عام 2017 إلى اعتماد نموذج جديد، مع الحث على ضرورة إجراء تقييم موضوعي للنموذج الحالي والوقوف على المشاكل التي تعتريه، في أفق بلورة استراتيجيات جديدة تدعم إرساء حلول عملية لمختلف المشكلات المطروحة في هذا الصدد، بما يلبي حاجات المواطنين، ويسهم في الحد من الفوارق المجالية، ويسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية قبل تعيين أعضاء لجنة استشارية في هذا الخصوص، تشكلت من 35 شخصية من المسؤولين والخبراء والأكاديميين.

وتأتي هذه الخطوة المهمة، لتعكس الوعي المتزايد على أعلى مستوى، بأهمية وضرورة إرساء قواعد متينة لتنمية إنسانية واعدة، قادرة على تجاوز عدد من الاختلالات القائمة.

تشير كثير من الدراسات والأبحاث التاريخية إلى أن الاستعمار الذي شهده المغرب، منذ بدايات القرن العشرين أسهم إلى حد كبير في تكريس تباين مجالي، عمّق الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في عدد من المناطق المهمشة التي لم تحظ بتوفير البنى التحتية من مدارس وطرق ومستشفيات، والربط بالماء النقي والكهرباء، فيما أسهمت قساوة الطبيعة وما يتصل بها من جفاف ووعورة تضاريس في تعميق المعاناة أكثر في بعض هذه المناطق، وعلى الرغم من الجهود المبذولة منذ فجر الاستقلال، فإن التباين ما زال حاصلاً بين عدد من المجالات الترابية؛ الأمر الذي يسائل نجاعة السياسات العمومية، ومختلف الفاعلين والمتدخلين على المستويين المحلي والوطني.

اختار المغرب نظام الجهوية كمدخل استراتيجي لتدعيم الديمقراطية المحلية، وتعزيز جهود التنمية الإنسانية، وإرساء نمط تدبير يقوم على القرب عبر إشراك الساكنة في تسيير شؤونها المختلفة، فيما تم بذل كثير من الجهود على طريق الحد من التناقضات التي تطبع المجال الترابي، باعتماد تدابير وسن تشريعات تدعم تطوير الخيار الجهوي، وهو ما تعزّز مع دستور 2011 الذي أكد في فصله رقم 142 على أنه «يُحدث لفترة معينة ولفائدة الجهات، صندوق للتأهيل الاجتماعي، يهدف إلى سد العجز في مجالات التنمية البشرية، والبنيات التحتية الأساسية والتجهيز، ويُحدث أيضاً صندوق للتضامن بين الجهات، بهدف التوزيع المتكافئ للموارد، قصد التقليص من التفاوتات بينها». 

لا يمكن فصل كسب رهان العدالة الاجتماعية عن تحقيق العدالة المجالية، فهذه الأخيرة تمثل مدخلاً أساسياً لتعزيز الممارسة الديمقراطية، وتحقيق تنمية مستدامة تقوم على استحضار الإنسان باعتباره وسيلة وهدفاً، وتسمح أيضاً بتوزيع عادل ومتوازن للثروات البشرية والطبيعية المتاحة، وكذا الخدمات والاستثمارات بين مختلف المناطق.

يكلّف التباين المجالي الدولة والمجتمع هدر كثير من الفرص التنموية، فقد نبهت بعض التقارير إلى أن أربع جهات أصبحت تستأثر بأكثر من 60% من نسبة النمو الاقتصادي الوطني، وتستقطب نسبة تتجاوز الأربعين بالمئة من إجمالي السكان، وهذا أمر طبيعي إذا استحضرنا تمركز الاستثمارات والمشاريع الكبرى، والصناعات والفلاحة المتطورة في هذه المناطق.

لا يمكن إرساء نموذج تنموي يستجيب لتطلعات المواطن، دون اعتماد تدبير استراتيجي يزاوج بين الاستجابة للمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الآنية، والانفتاح على المستقبل بفرصه وإشكالاته، مع الانفتاح على التجارب الدولية، والتمسك بالخصوصية المغربية التي يفترض أن تطبع هذا النموذج.

يقوم التدبير العصري على استثمار العنصر البشري، وبلورة مقاربة إنسانية للتنمية، تضع الفرد في صلب اهتمامها من حيث تطوير محيطه، وتعزيز أمنه الإنساني بكل مكوناته الصحية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية في إطار من العدالة والمساواة.

لقد أخذت اللجنة التي عيّنها الملك محمد السادس وقتاً كافياً للوقوف على الحالة التنموية الراهنة من جهة، ولبلورة مداخل كفيلة بإرساء نموذج في مستوى الاختلالات المطروحة والتطلعات، ويشكّل تزامن عملها مع انتشار جائحة كورونا عاملاً مساعداً للوقوف على مجموعة من الإشكالات، والتي كانت أكثر ثقلاً في مناطق بعينها، والتركيز على عدد من الأولويات الداعمة لعدالة مجالية تستحضر معاناة بعض المناطق وخاصة القروية منها، وتمكينها من فرص التنمية بغض النظر عن موقعها الجغرافي وإمكاناتها الاقتصادية المتاحة.

وينطوي كسب هذا الرهان على أهمية قصوى، على اعتبار أنه يمثل أرضية صلبة، وعنصراً أساسياً لتعزيز الممارسة الديمقراطية وإرساء تنمية إنسانية مستدامة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"