من يُنزل اللبنانيين من فوق الأراجيح؟

00:35 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

«الميديا ستيت» أو «دولة الإعلام» هو الاسم الجديد الذي أطلقته على لبنان في ال2000 في أطروحة بعنوان: «الإعلام في لبنان وانهيار السلطات». إنّه لمن المحزن أن تعيش عقدين من الإنهيارات بينما يستمرّ حكّام هذه البقعة البائسة متحصّنين بشعارات الديمقراطية والحريّة والسيادة، وقد أفرغوا البلد المستورد أساساً من مضامينه ونكهنته، ويتشبّثون بعروشهم «مالكين الدنيا وشاغلين الناس» و«لهم في كلّ عرس قرص» على حدّ المثل الشعبي. إنّها بالفعل معضلة كبرى تقوى مراراتها بمقولة أنّ «الشاشات تسبق السياسات». أورثتنا هذه الأمراض الصراعات نسقاً لا يُطاق من المسافات والمنافسات بين الطوائف حتّى وصلنا إلى الإعلان باستحالة العيش في أرضٍ تشظّى بشرها وتعمّقت جراحاتهم وتناقضاتهم إلى حدود إرباك الدول العظمى والإقليمية والعربيّة الشقيقة. بات هذا الواقع العام مصدر نفور عربي متهكّم من تراكم الأزمات والاشتباكات التافهة المخجلة في أنحاء المعمورة. ليس هذا استهلالية لمقال، بقدر ما هو توصيف لفيالق خطيرة بين خطّين متوازيين متنافرين يستحيل أن ترمّم وطناً فوق فسحة واحدة:

1- الأوّل طغيان أحلام قديمة واعدة مبهمة برزت فجأةً في أصعب الأوقات حافلة بالأخطاء والخطايا والوعود بالتنقيب وقرب تفجّر ثروات النفط والغاز الذي جنّن اللبنانيين، إذ صاروا يرون فيه خشبة الخلاص التي ربّما منّ عليهم الله بها من السماء لينشلهم من تحت الأرض. وهناك جهود إعلامية تجعلك تُصدّق أنّ الانهيارات الحاصلة مصطنعة وعرضيّة بل مستوردة لأنّ لبنان وطن مميّز و«أرض قداسة». يغرقون ببلاهاتٍ وانقسامات متعددة، ويتمسّكون بقشّة الثروات الجوفية التي ستخرجهم غداً من هذا«الجحيم» المتنوّع النيران وهم في مواقده المشتعلة لا على أبوابه، كما خاطبهم رئيس بلادهم في لحظةٍ سياسية حرجة من قصره في بعبدا الطافح بالفراغ والضيق بعدما سألته إعلامية من طالباتي: إلى أين نحن ذاهبون من هنا ؟ أجاب محتدّاً: إلى الجحيم.

 هكذا نتابع المفاوضات التي انطلقت من الناقورة بين الوفدين العسكري اللبناني والإسرائيلي، فتوقفت وهزّت أحلام اللبنانيين، لتنطلق فجأةً حافلة بانقسامات لا يمكن فهمها وتفسيرها وضبطها. لا مكان في العيون والعقول لرؤية المسؤولين يتجاذبون بعد ويتنادرون وسبق لهم أن أسّسوا 52 شركة جاهزة لبيع النفط والغاز، وهم يدورون بحثاً عن «أجناس الملائكة»، يتقاذفون المواطنين البؤساء ويغرقون المحيط بدراسات وتقديرات وآراءٍ وأرقام ونسب متفاوتة تعبّيء وسائل الإعلام وكأنّها أضغاث أحلام مخدّرة مع أنّه لا نتائج منها قريبة تطمئن الناس لا إلى مستقبلهم بل إلى مستقبل أولاد أحفادهم على الأقلّ.

 اللبنانيون مصابون باختصار، بمرض فصام جماعي نفسي، وهذه ظاهرة نادرة في القاموس النفسي. تفشّى المرض على ألسنة جيوش من الخبراء والباحثين ورجال القانون والعلماء وأساتذة الجامعات والمؤرّخين والإعلاميين والمحلّلين المتشظّين بما يتجاوز مقاييس لبنان المذهبي والحزبي. ورش يومية تشرح قوانين البحار والمناطق الاقتصادية الخالصة وضبط الحدود البريّة والبحرية وغيرها من الأمور والنقاط التقنيّة المعقّدة التي أورثت مناخات مبهمة أغرقت الناس في تيه الناقض والمنقوض والبرامج والخرائط والوثائق المتقابلة والمتعارضة في بلد الخلافات والانقسامات التاريخية المزمنة وصلت إلى المطالبة العلنية بمحاكمة كبار المسؤولين بالخيانة العظمى.

2- يحفظ اللبنانيون أنّ قيمة الهدر والسرقات هي 435 مليار دولار بخّرت 55 % من ودائعهم، وأنّ 70 % من المقيمين في لبنان فقراء مدقعون يُضاف إليهم 15 % في خانة الفقراء وفقاً للإحصاء المركزي، وأنّ الدولارسيصل إلى 20000 ل.ل وأكثر، وأنّ قسماً كبيراً من الاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان هُدر، وأنّ سياسة السلع المدعومة سقطت لا بدعم الفقراء والمحتاجين، بل لأنها راحت تُهرّب إلى خارج لبنان وفق سياسة سحب بقايا النخاع العظمي للهيكل وتوزيعه على الوكلاء والتجّار وأصحاب الوكالات الحصرية ، حيث الاختلاط الجيني بين السياسة والتجارة، وإذا كان من المفترض أن يكون الدعم أساساً في صلب ميزانيات الدولة، وهو ما لم يحصل، وإذا ما راحت الدولة غداً إيّاها تستوفي رسومها باحتساب الدولار ب 3900 ل.ل. كما تُعلن، من دون تعديل في سعر الدولار مراعاة لمصالح «الكبار» من مصرف لبنان والمصارف التجارية، فهذا يعني قطعاً إعلان إفلاس جميع المصارف المقوّمة رساميلها بالعملة الوطنيّة.

 ينتظرغالبية اللبنانيين اليوم البطاقات التموينية التي تجهّزها «الحكومة المقعدة» تمهيداً لرفع الدعم المدروس عن المواد الأساسيّة التي ستبقيهم معلّقين على ضفاف الحياة والموت في أرجوحة تتراقص فوق الجنّة والجحيم. من يُنزل اللبنانيين من فوق الأراجيح؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"