أرشيف تسعيني.. هل تغيّـر شيء؟

00:21 صباحا
قراءة دقيقتين

يوسف أبو لوز

احتفظ في أرشيفي الشخصي، أحياناً، ببعض الأخبار الطريفة، لكنها ذات دلالة، ففي التسعينات من القرن العشرين، ولأمر في «بطن يعقوب» طالب باحث اقتصادي أمريكي بعرض إفريقيا بأكملها على المزاد العلني من خلال عقود «حكم» تجارية تتقدم بها الشركات المتعددة الجنسيات، وبموجب ذلك، يمكن إنقاذ القارة السوداء من مشاكلها السوداء أيضاً: البيروقراطية، الفساد، والتنافس القبلي كما قالت الصورة الإخبارية آنذاك.
ولا أدري لماذا نتذكر من فورنا الشاعر محمد الفيتوري، الذي كانت إفريقيا محور شعره كله تقريباً.. حلمه الإنساني وحلمه الإبداعي معروضان على المزاد العلني.. نتذكر أيضاً شعراء وروائيين أفارقة جعلوا اللون الأسود راية كبيرة بحجم عين الشمس. نتذكر الفنون القديمة لهذه القارة المكتنزة بالألغاز وعتمة الغابات ابتداء من الأقنعة مروراً بأصوات الطبول، وانتهاء بالطقوس الغارقة في ظلمة قارة ولدت من تزاوج الشمس والماء.. ولكن الأهم من كل ذلك أن إفريقيا قارة زراعة وقارة معادن وأنهار ومناجم وغابات.. ذلك هو إبداعها الأرضي الأساسي.. الإبداع الذي يطعم خبزاً ويروي ماء مع ذلك. كانت الشركات المتعددة الجنسيات، قبل أكثر من عقدين من الزمن «في منتصف تسعينات القرن العشرين»، تتربص بها كما يتربص النمر الإفريقي بفريسة طيبة.
إذاً.. صدق الفكر، وصدقت المقولات والنظريات الجديدة التي تقول إن الاستعمار السياسي انتهى ومات وحل محله الاستعمار الاقتصادي.
صدق السياسيون والدبلوماسيون والجنرالات أيضاً عندما قالوا إن الحروب العسكرية انتهت سواء أكانت حروباً باردة أم حروباً ساخنة لتحل محلها الحروب الاقتصادية.
كل شيء يَصدق في عصرنا المكشوف إذا قاله السياسيون والاقتصاديون، لا بل إن الاقتصادي الآن هو «عراب» السياسي ومعلمه ودليله، وكل سياسي لا يتبع «أباً» اقتصادياً فهو سياسي يتيم.
أما الدول الاقتصادية القادمة فلن تكون دولاً كالتي عرفناها وعشنا فيها وذقنا حلوها ومرها.. الدول الاقتصادية القادمة لن تكون في حاجة إلى الثبوت على خريطة العالم الجغرافية، ولن تكون دول شعوب أو جوازات سفر أو شعراء.
إن صندوق النقد الدولي وحده دولة، والشركات المتعددة الجنسيات دولة أو مجموعة دول، والبنوك الكبيرة دولة أو مجموعة دول. ديون العالم الثالث مجموعة دول أيضاً. هكذا تتحول خريطة العالم، وتصبح الكيانات العلنية القائمة مجرد ظلال رمزية لا أكثر، أما الشعوب فلن تكون سوى مجموعات ضخمة من الموظفين في «الدول الجديدة».
حقا إن التاريخ يعيد نفسه، والعبودية تستعاد الآن بأشكال ملطفة بعض الشيء، والقيم البعيدة التي حاربت البشرية قروناً من أجل زوالها تنبت الآن ببراعم أكثر قوة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"