عادي

ثوب الهوية

23:03 مساء
قراءة 6 دقائق
234
1701

استطلاع: نجاة الفارس

ما دور الأدب في الارتقاء باللغة العربية؟ وإلى أي مدى ارتقى الأدب في الماضي بلغتنا وهل يلعب الدور نفسه الآن؟ يؤكد عدد من الكتاب والنقاد، أن اللغة العربية أثبتت على مر التاريخ أنها لغة فخمة ومتكاملة وثرية بألفاظها وعباراتها لأنها استطاعت أن تحمل تراثاً أدبياً وعلمياً زاخراً، وأوضحوا أن صيانة اللغة ضرورة كمدخل أساسي لصيانة وحفظ الهوية الحضارية والثقافية، والأدب يلعب دوره في ذلك، ليس فقط الدور اللغوي؛ بل أبعد من ذلك يمكنه أن يرسّخ القيم وذاكرة التاريخ في نفوس القراء ويعرّف الجيل الجديد بتاريخ حضاراتهم ولهجاتهم المختلفة.

في هذا الاستطلاع ل«الخليج»، لفت الكتاب أيضاً إلى أن لغتنا ارتقت عبر عصورها المديدة بما أبدعت قرائح الشعراء وما اختطت يراعات الكتّاب من ذخائر أدبية هي أصدق بيان، وأبهى محل لجمال لغتنا وطاقاتها الكامنة، وإن الأدب العربي هو عقل اللغة العربية، ضميرها الواعي الذي ينسج قيمها، إنه ببساطة مفتاحها نحو المستقبل.

عمادان أساسيان

يقول الدكتور شعبان بدير ناقد وأكاديمي بجامعة الإمارات: «اعتمدت اللغة العربية منذ مشرق الإسلام على عمادين أساسيين أولهما القرآن الكريم الذي يعد القمة العليا في البلاغة والبيان، وبلغت اللغة معه حد الكمال، فهو بيان إلهي بلسان عربي مبين، وأما الركيزة الثانية فهي الأدب الذي حمل رسالة أمة عربية عريقة احتفت بالفصاحة، فكانوا لا يهنئون بعضهم إلا بإحدى ثلاث «شاعر يبزغ، أو مولود يولد، أو فرس تنتج» فأودعوا في الشعر مآثرهم وأيامهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكان علماء اللغة والبلاغة والتفسير يلجؤون إلى الأدب لتأصيل مسائلهم، فكان استعمال الشاعر الجاهلي على وجه الخصوص للغة هو الأصل الذي يبنى عليه الصواب والخطأ؛ لأنه المتشرب للغة من معينها البدوي الأصيل».

ويضيف: «أسهمت الفنون النثرية كذلك في مد اللغة العربية بزاد لغوي ثري، فالخطابة كانت داعماً للغة على ألسنة الخطباء الفصحاء عبر العصور بداية من قس بن ساعدة الإيادي والحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه وغيرهم من خطباء العرب؛ بل إن كتب الجاحظ كالبيان والتبيين والحيوان وغيرهما كانت تحفاً أدبية وثروة لغوية وبلاغية، وقس على ذلك كتب علماء البلاغة كعبد القاهر الجرجاني والزمخشري، و أساطين النثر العربي، مثل: ابن العميد وعبد الحميد الكاتب والسيوطي وطه حسين والعقاد ومن حذا حذوهم من عمالقة النثر العربي ومن تلاهم من كتاب الرواية العربية التي تعد منبعاً ثرياً في دعم اللغة وإثرائها بالجديد والجديد من الدرر اللغوية والحقول الدلالية المفعمة بالخيال والتصوير، مما يعطي اللغة بعداً جمالياً يبث الروح في تضاعيفها ويجدد دماء الحياة في شرايينها».

ويذكر الدكتور بدير نقطة مهمة جداً وهي أن اللغة العربية، أثبتت على مر التاريخ أنها لغة فخمة ومتكاملة وثرية بألفاظها وعباراتها، لأنها استطاعت أن تحمل تراثاً أدبياً وعلمياً زاخراً واستوعبت دوماً المزيد والمزيد من الفنون مما ساعد على احتفاظ اللغة بأكبر رصيد لغوي متوارث عبر العصور المتتابعة مما جعلها من أقدم اللغات التي شهدها التاريخ، وكذلك أثرى الأدب اللغة قديماً وحديثاً بالمفردات والعبارات الحديثة التي تتناسب مع كل عصر؛ لأن الأدب على اختلاف أجناسه وأنواعه ابن البيئة والعصر ونتاج نفس تعايش الناس وملم بالحديث والمتداول من الألفاظ والعبارات، وهو المادة اللغوية المتداولة في الأمسيات الأدبية والمؤتمرات العلمية، واللقاءات الثقافية، والتي أسهمت في الآونة الأخيرة على انتشار اللغة الفصيحة في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الموازي الأكثر شعبية في ما يسمى بالإبداع الرقمي، وتجدر الإشارة إلى أن الأدب هو الأداة الرئيسية في مناهج تدريس اللغة العربية والمحتوى الأبرز في تعليم فنونها بأسلوب جمالي وخيالي يجذب الدارس ويشعره بالمتعة ويغذي دافعيته، ويثري معجمه اللفظي والتعبيري؛ إنها من أجمل اللغات وأوسعها خيالاً وعلى الرغم مما أصاب الأدباء حديثاً من ضعف لغوي وفقر معجمي وتعبيري، إلا أن الأدب كان وسيظل هو الداعم الرئيسي للغة والأداة الأبرز والأقوى في الارتقاء بها.

عناصر تميز

وتقول الدكتورة مريم الهاشمي ناقدة وأكاديمية: «إن الأدب يتميز بعناصر تميزه عن غيره من أنواع الكتابة، ومنها اللغة، وهي نشاط اجتماعي قد يقصد به أحياناً إقامة الود أو مدعاة للوحدة، وصيانة اللغة ضرورة كمدخل أساسي لصيانة وحفظ الهوية الحضارية والثقافية، والأدب يلعب دوره في ذلك، ليس فقط الدور اللغوي؛ بل أبعد من ذلك يمكنه أن يرسّخ القيم وذاكرة التاريخ في نفوس القراء ويعرّف الجيل الجديد بتاريخ حضاراتهم ولهجاتهم المختلفة، فلم تعد العلاقة بين اللهجة واللغة تلك العلاقة التصادمية، لكنها اليوم تكاملية أمام اللغة والهوية الأجنبية الكاسحة، لذا نجد الأدب باباً من أبواب التشبث بالهوية الثقافية والحضارية والعربية والتاريخية والقيمية ولا يمكن ذلك إلا باللغة العربية والتمكن من مقوماتها، وهو ما عرفه الأقدمون حين طوعوا الأدب في سبيل اللغة كالأراجيز التعليمية، والشعر التعليمي لما لها من وقع ونظم موسيقي يساعد على سرعة التذكر والحفظ، فاللغة والأدب متلاحمان ولا يمكن الفصل بينهما لا تعليمياً ولا جمالياً، وهنا تكمن براعة اللغة، فاللغة تسهل الفكر».

وتتابع الهاشمي: «تعد اللغة من أهم عناصر الأدب بأنواعه، وهي القالب الذي يصب فيه الكاتب أفكاره، ومن خلاله ينقل رؤيته للناس، ومن خلاله أيضاً يتعرف القارئ إلى الأجناس الأدبية العربية التي يمكن أن تتداخل في جنس واحد: كالشعر، القصة، المسرح، أدب الرحلة، والخطابة، إضافة إلى تلاحمها مع التراث والفن والمثل الشعبي والخرافة والأسطورة والأغنية الشعبية والأنشودة الثورية والأرجوزة والمفاهيم الدينية، وهو ما يشكّل قالب الحضارات والشعوب، وبمنأى عن اللغة تتجه الحضارة إلى تقليد غيرها من الحضارات، وتدريجياً تتحول إلى مسخ بلا روح ولا لون ولا هوية ولا تفرّد، فاللغة هي الثوب التي تتمايز بها الشعوب».

بصمة

الدكتورة منى علي الساحلي الأستاذة في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الإمارات، تقول: «العلاقة بين الأدب واللغة علاقة بنيوية وثيقة؛ بل هي علاقة حيوية جوهرية، فالأدب بخلاف سائر الفنون فن قولي مادته اللغة، وهي أداته ومجال إبداعه، فلا وجود له من دونها، لكن الأديب لا يستعمل اللغة كما يستعملها غيره فهو يصنع مجازاته وسياقاته ويشكل صوته الخاص المختلف عن أصوات الآخرين، ويعطي كلماته بصمته الشخصية وهنا تكمن مقدرته الإبداعية، كما تقاس موهبته وإضافته الفنية، ومن هنا تحديداً تثرى اللغة وتتجدد، لأن اللغة تعبير عن الوجود الإنساني الحي، فهي كينونة حية، وحياتها في الاستعمال، وليست في بطن الكتب والمعاجم».

وتؤكد الدكتورة الساحلي، أن الاستعمال الأدبي والشعري يشكل أعلى مستوى للاستعمال اللغوي الإنساني لأنه لا يضع اللغة في حيز الاستعمال فحسب؛ بل يشتق منها تعبيرات ومجازات جديدة تضاف إلى رصيدها وتجدد شبابها، إن الكلمات بين دفتي المعجم جثث هامدة باردة والاستعمال البارع هو الذي يبث دفء الحياة في أوصالها، فتشع بالمعاني وترسل أشعة بوحها الكاشفة عن مكنونات الأعماق، لذلك بيّن الشاعر الإنجليزي شيللي في دفاعه الشهير عن الشعر، كيف أن اللغة مدينة بالفضل للشعراء الذين لولاهم لكانت أداة عاجزة عن التعبير عن الأغراض الإنسانية النبيلة، من هذا المنطلق ارتقى أدباء العربية بلغتهم كما ارتقت عبر عصورها المديدة بما أبدعت قرائح الشعراء وما اختطت يراعات الكتّاب من ذخائر أدبية هي أصدق بيان، وأبهى محل لجمال لغتنا وطاقاتها الكامنة، التي تبدع في استجابتها لمن يتفنن في استنطاقها، ويحسن التعامل معها، وبفضل هذا الجمال اللغوي الإبداعي تحققت للأدب العربي أصالته وجودته، فاستطاع أن يحقق - وما زال يفعل- وجوده العالمي، وبلغت مؤثراته الفنية والموضوعية في أدب الأمم قديماً وحديثاً مبلغاً عظيماً ما كان ليتم لو ضعفت لغته أو فقدت رونقها وإشراقها.

كائن حي

القاص أدهم سراي الدين، يقول: «إن اللغات ليست إلا كائنات حية تتنفس من خلال الناطقين بها، تعيش وتكبر وتتطور وربما أحياناً تموت وهذا ينطبق على اللغة العربية الضاربة في القدم والتي تطورت منذ عصور الجاهلية، وحافظ عليها القرآن الكريم من الاندثار ثم تطورت بجهود مثقفيها و ما يكتبونه من أدب في الرواية، القصة، الشعر، النقد والترجمة ومختلف الفنون الإنسانية، وهكذا تصير الثقافة عقل اللغة وخازن ماضيها وحافظ تاريخها بينما الأدب يشكل وعيها، ضميرها و إرادتها نحو المستقبل، وهذا ينطبق أيضاً على الأدب العربي، خاصة الحديث منه منذ طه حسين».

ضمير الأمة

يلفت أدهم سراي الدين، إلى أن الأدب العربي شكل ضمير الأمة وجدد قيمها من خلال مقولة «الفن للمجتمع»، ولا شك أن اللغة تعظم ليس فقط بقاموس مفرداتها؛ بل بإنتاج كتابها، فكم كبرت اللغة الألمانية بإنتاج فلاسفتها منذ غوته، واللغة الروسية بروايات دوستويفسكي وتولستوي وقصص تشيخوف، لذلك يرى سراي الدين، أن على عاتق الأدباء والمثقفين العرب عمل كبير أن يقوموا به، عليهم أن يجتهدوا أكثر في مجالات الفن والمعرفة الإنسانية لأن الأدب يعمل على تحفيز خيال اللغة واستنباط وتطوير مجموعة واسعة من المصطلحات و المعاني التي تعطي اللغة الطاقة على الاستمرار، ليست الكلمات إلا طاقة و خيال وإيقاع، والأدب باستخدامه اللغة العميقة والتي تختلف اختلافاً أصيلاً عن اللغة المحكية يزيد من الوعي الذاتي للغة بنفسها فيتطابق سلوك المجتمع مع فكره.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"