عادي

متواليات الكلمة

21:32 مساء
قراءة 4 دقائق
1

الشارقة: يوسف أبولوز

كانت الكلمة المفردة قبل العبارة الجملة، وكانت العبارة الجملة قبل النص، وكان النص المكتمل المخطوط قبل الكتاب، فإذا كانت هذه المتواليات المطروحة هنا اجتهاداً، صحيحة، فإن اللغة قبل الأدب، وما من آداب عظيمة في التراث الثقافي للشعوب إلا وارتبطت بلغات كتّاب عظماء.. لغات هؤلاء الكتّاب هي التي أعطت شرعية العالمية؛ بل شرعية الخلود للأدب، وفي قلب لغة كل أدب عالمي هناك لغة كاتب. هناك لغة داخل اللغة.

في لغة الأدب الإنجليزي الفيكتوري ثمة لغة شكسبير، هكذا يُقال: «لغة شكسبير» بمعزل كلي عن الأدب الإنجليزي برمته، وفي الأدب الفرنسي يقال لغة موليير أو لغة فيكتور هيجو، وفي الأدب الأمريكي يقال لغة عزرا باوند، وفي الأدب الروسي يقال لغة تولستوي، وحين عاد طه حسين من فرنسا إلى مصر عام 1914 أو 1951 شهد الأدب العربي لغة «حديث الأربعاء»، و«الأيام»، و«دعاء الكروان» و«المعذبون في الأرض» وغيرها من عناوين جعلت من الأدب سلطة فكرية وجمالية ولغوية؛ لا بل شهد الأدب العربي في تلك المرحلة العبقرية (النصف الأول من القرن) أكثر من لغة داخل لغة الأدب الواحدة: ولكل لغة هوية وسلطة ونفوذ. نعم نفوذ نقدي وأبجدي وبلاغي: لغة العقّاد، لغة الحكيم، لغة المنفلوطي، لغة زكي مبارك، وهكذا، في متواليات لغوية داخل الأدب العربي الذي رفعته هذه الرموز إلى ذرى رفيعة، لم تتكرر حتى اليوم.

اللغة هي التي ترفع الأدب، وليس العكس؛ لأن الأدب مصنوع، وتصنعه اللغة عبر كاتبها وعبر المتنفذ بها؛ أي الروائي أو الشاعر أو الناثر.

لا يصنع الأدب ناقد أدبي يتغذى أو يتطفل على النص الشعري أو الروائي أو النثري ويستخلص منه نظرياته ومصطلحاته ومفاهيمه؛ بل الشاعر هو صانع الأدب الأول، ثم الروائي ثم الناثر، أما الناقد الأدبي مهما كانت لغته رفيعة وناقدة وبلاغية، فإنه لا يصنع الأدب، وإنما يعيش على حواف الأدب، ويعيش على رموزه وظواهره الفنية والجمالية والفكرية والاجتماعية واللغوية، الناقد الأدبي يصوغ نظريته من مادة الأدب، ويحدد له منهجاً وإطاراً نقدياً وفكرياً استناداً إلى شيء ناجز مسبقاً هو الأدب، وإذا كانت اللغة تسبق الأدب وهي فقط مَنْ ترفع شأنه، فإن الناقد الأدبي أو إن لغة الناقد الأدبي ليست سابقة للأدب؛ بل هي تالية له، وهي أيضاً تابعة له، فمهما اشتغل الناقد المنظر التطبيقي على الأدب، فإنه لن يرفع من شأنه مثلما تحقق هذه الرفعة قصيدة عظيمة أو رواية كونية أو نص نثري إنساني خارق للعادة الأدبية، وخارق للعادة الثقافية أيضاً.

ظاهرة إبداعية

الأدب ظاهرة إبداعية باختصار شديد يشكلها عدد من الشعراء والروائيين والناثرين (الأدباء)، والأدب يتحوّل في هذه الحالة في مجمله إلى تيار أو يتحول إلى بيئة ثقافية، فكرية، لغوية، وعليه يمكن للغة أن تنمو وتكبر وتتعافى في إطار هذه البيئة الأدبية، ولكن الأدب في حد ذاته لا ينمي لغة ولا يحققها جمالياً ولغوياً وفنياً؛ بل البيئة العامة الأدبية والثقافية يمكن أن تخدم اللغة.

في فترة من فترات الثقافة العربية وما كان يحيط بها من ظروف سياسية وأيديولوجية اختار كثير من الكتّاب العرب مغادرة بلدانهم نحو بلدان أخرى عربية وأوروبية على شكل هجرات ظاهرها سياسي أو اجتماعي وباطنها ثقافي بامتياز، غير أن الملاحظ في كل تلك الأحوال أن هؤلاء الكتاب كانوا يختارون بيئات أدبية في حد ذاتها، ويهاجرون إليها مثل البيئة الثقافية الفرنسية، البيئة الثقافية الأدبية المصرية، البيئة الثقافية الأدبية اللبنانية، الألمانية، الأمريكية، الأوروبية سعياً إلى تحقق الذات الأدبية قبل أي شيء آخر، وسط كتّاب ولغات وتعايشات ثقافية، إنسانية رفيعة.

شاعر واحد، أو روائي واحد يشكل وحده ظاهرة أدبية بوسعه، وحده أيضاً، أن يطبع أدب بلده بصفات حميمة عالية: الإنسانية مثلاً، العالمية أيضاً، وبوسعه وحده أن يكوّن تلك البيئة المؤثرة الجاذبة التي تحدثنا عنها قبل قليل.

ميجيل دي ثيربانتيس (1547-1616)، وقبل أن يصل إلى السبعين من عمره، ووحده، وقبل أكثر من 400 عام دمغ العالم بإبهام يده ليضع للثقافة الإنسانية اسماً آخر هو الأدب الإسباني بلغة ليست دون «كيخوتية»؛ بل هي لغة بكرية عبقرية، مرة ثانية رفعت شأن السرد الروائي العالمي، وأسست له، أما دون كيخوت بنبله وفروسيته ومغامرته فهو رجل عادي.

حيز حيوي

أكثر من ذلك، أصبحت اللغة الأدبية هي بالذات هوية الكاتب وفضاءه وحيّزه الحيوي المعنوي بل حتى المادي. أصبحت تقرأ نصاً ما من دون أن يظهر عليه اسم كاتبه، فتقررّ من فورك هذه لغة الجواهري، تلك لغة نيرودا، ذلك النص لسعيد عقل، هذه الحكاية لنجيب محفوظ، هذه القصيدة لمحمود درويش من خلال اللغة.

اللغة، أيضاً، ذات وكينونة ووطن. إنها اسم وعلامة وإشارة. اللغة تدل على كاتبها، وتفضحه، وتُعرِّيه حتى لو غطى وجهه بقناع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"