أحلام الفتى القديم

01:09 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

عندما أصدر الشاعر العربي الراحل صلاح عبد الصبور ديوانه الشهير «أحلام الفارس القديم»، رأيت أن أستعير من أبرز رواد الشعر الحديث عنوانه، وقد فكرت أن يكون هو أوهام الفتى القديم، ولكنني عدلت عن ذلك ورأيت أن أرتفع به ليصبح هذا العنوان الذي اخترناه لأنني أرى الدنيا حولنا تتغير بسرعة، وأن الفتى القديم يشعر بغربة مما يدور حوله، فالدنيا تغيرت والعالم تطور حتى الفيروس تحوّر، كما أن اللهاث وراء تكنولوجيا العصر قد ترك بصمات قوية على الأجيال الجديدة وأصبحنا نرى كوكب الأرض من منظور جديد مختلف تماماً عما كنا عليه؛ بل إن الشهور الأخيرة قد ركزت على الخيط الرفيع بين الحياة والموت، فكل يوم نفقد أقارب ومعارف وأصدقاء ولكننا لا نعتبر كثيراً، ونعيش حياتنا شبه العادية في بلادة ولا مبالاة يصعب تفسير أسبابها. 

إن الفتى القديم يشعر بعزلة حقيقية عن واقع العصر ويتعامل مع أدواته وآلياته بحرص وحذر شديدين، ويدرك أن الأيام الخوالي لن تعود وأن الزمن أغلى سلع الحياة، ولكنه غير قابل للادخار مثل غيره؛ بل يفلت من أيدينا كل لحظة ولكنه لا يعود أبداً.

إن دافعي في كتابة هذه السطور هو أن أعبّر عن شعوري العميق بأن الهوة بين الأجيال تتسع، وأن القادمين على المسرح يختلفون عن الذاهبين منه، وعندما ألتمس من أحد أحفادي مراجعة هاتفي المحمول لإصلاح خطأ أو إجراء تعديل، فإنني أبدو مقتنعاً بأن ما جرى في الخمسين عاماً الأخيرة يعادل تقريباً ما جرى في الخمسمئة عام السابقة عليه، فقد أصبحنا عاجزين عن متابعة التطورات السريعة في التقنية الحديثة. ويهمني في هذا المقام أن أسجل الملاحظات الآتية:

أولاً: إن التكنولوجيا المعاصرة هي سلاح ذو حدين، فبقدر ما قدمت للبشر من تسهيلات وما أتاحته من فرص، إلا أنها قضت  إلى حد كبير  على شبكة الحياة الاجتماعية وأدت إلى تحول خطر في العلاقة بين الأفراد، حتى أصبح كل واحد يعيش مع نفسه وجهاز صغير في يديه يصله بأطراف الدنيا الأربعة.

ثانياً: لقد تحدث المفكرون عن صراع الحضارات، وتحدث الماركسيون عن صراع الطبقات، ونحن نشير اليوم إلى صراع الأجيال ونفضل تسميته حرصاً وتأدباً بحوار الأجيال، وهي مسألة محتدمة ولكنها مستترة؛ إذ تدخل فيها عوامل معقدة وأطراف متشابكة تصل بنا في النهاية إلى ضرورة التعايش بين كل جيل ومن سبقه؛ بل ومن يتلوه أيضاً.

 لذلك فنحن لا نخفي مشاعر القلق الحقيقي والريبة الكاملة تجاه المستقبل القريب؛ لأن عالماً لا يستطيع أن يستوعب أكثر من سبعة مليارات من البشر مطلوب منه خلال فترة قادمة أن يستوعب مليارات عشرة دون موارد جديدة أو حتى مصادر متجددة، لقد أعطت الأنهار ما لديها وقدمت البحار ما في أعماقها ودفعت المحيطات بثرواتها، وجرى استنزاف اليابسة إلى أبعد الحدود وطفحت الصحاري بمخزونها الضخم من الغاز والنفط والمعادن الأخرى، وأصبح عالمنا مقبلاً على مشكلات في المياه وأزمات في الطاقة مع تلوث شديد في البيئة وتغييرات جذرية في المناخ.

إنني لا ألجأ إلى هذا النمط من الكتابة تطبيقاً للأدب الرمزي أو استعارة أفكار عابرة للحدود الزمنية، ولكنني أردت أن أضع إنسان العصر أمام التحديات الحقيقية والمشكلات المزمنة والأزمات الطارئة، فكل يوم يأتي بجديد وكل جديد لا يكون مقبولاً من بدايته، فالمرء عدو لما يجهله، متشكك في ما لا يعرفه، ويمضي دائماً نحو تطلعاته، وكلما عرف أكثر ازداد نهمه للمعرفة. 

لذلك فإن الحلقة مفتوحة والدائرة غير مغلقة، وسيظل الإنسان أسير طموحاته ولا أقول أطماعه مع ركام من العواطف الإنسانية والأحاسيس البشرية التي تجعلنا نعيد قراءة ما كتبه الشاعر الراحل الكبير صلاح عبد الصبور.. إنها بحق أحلام الفارس القديم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"