نحن البدو

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

بعيداً عن السياسة ودسائسها ومكائدها وألاعيبها وحساباتها، نرغب في مناقشة الوصف الذي أطلقه وزير الخارجية اللبناني، الذي استقال مؤخراً، على أهالي منطقة الخليج والجزيرة العربية، وبصيغة تعميمية ولهجة استعلائية ب«البدو»، فالأمر جدير بالوقوف عنده فعلاً، وفي هذا يقال الكثير.
في البداية، فإن «البداوة» ليست شتيمة، كما ظنّ الوزير اللبناني، وإنما هي مفهوم اجتماعي ذو مضمون اقتصادي بالدرجة الأولى، أهناك عالم أكثر صدقية ومعرفة بالأمر من عالمنا الذي يوصف بمؤسس علم الاجتماع، العلامة ابن خلدون الذي وصف البدو بأنهم: «أولئك الذين يجتمعون ويتعاونون في حاجاتهم ومعاشهم وعُمرانِهم من القوت والمسكن والدفء بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويُحصِّل بُلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عما وراء ذلك»؟ مفرقاً إياهم عن الحضر الذين هم، حسب وصفه أيضاً: «الجماعة من الناس الذين اتسعت أحوالهم وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه».
هل قرأ الوزير ابن خلدون ومقدمته، ليعرف الفرق بين البدو والحضر؟ الأرجح أنه لم يفعل، ولكن دعنا نعاين الوضع اليوم في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية، معاينة اقتصادية  اجتماعية لنرى في أي خانة تقع: خانة من يتعاونون من أجل تأمين الحد الضروري اللازم للعيش (القوت والمسكن والدفء) حسب وصف ابن خلدون، أم إنهم أقرب إلى خانة «من اتسعت أحوالهم وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه»؛ بل إنهم فيها بالفعل؟ الإجابة ليست صعبة في ما نحسب، والشواهد أكثر من أن تُحصى.
من وجهة نظر التاريخ والجغرافيا، فإن البداوة ليست حالاً خاصاً بأهل الخليج والجزيرة العربية، فالصحارى واسعة وممتدة في عالمنا العربي من مشرقه إلى مغربه، وحيث وجدت الصحارى، بكل ما فيها من صعوبات العيش ونُدرة المياه والزرع، توجد صور للبداوة ما زالت قائمة حتى اللحظة، وليس في ذلك مدعاة للشماتة أو النظر بدونية للأقوام الذين شاءت أقدارهم أن يعيشوا هناك.
في الجوهر، فإن قول الوزير اللبناني تعبير عن اعتقاد شائع ومتأصل (ونقولها بأسف ومرارة) لدى الكثير من أشقائنا العرب حول «تخلّف» أهل هذه المنطقة، الذين في فقرهم وغناهم ظلوا، بقلوبهم وأفئدتهم، مشدودين إلى عمقهم العربي، ولن نتحدث عن الشأن الاقتصادي والتنموي والخدماتي الذي أمّن حالاً من الاستقرار، فلذلك أهله، لكن نقول، من موقع المعرفة، إن في هذه المنطقة أدباً وثقافة وفناً سابقاً لاكتشاف النفط بكثير، وشرائح واسعة من «التكنوقراط» الذين تأهلوا في أرقى الجامعات، ومن المثقفين الحداثيين، وينشط فيها مجتمع مدني لا تختلف انشغالاته عن نظيراتها في المجتمعات العربية الأخرى.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"