غريزة السرعة

00:25 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في آخر لحظات عام 2005، ومع اقتراب عقارب الساعة من الإعلان عن عام جديد، حاولت مجموعة من سكان قرية صغيرة تقع بالقرب من مدينة «نانت» الفرنسية، وتطلق على نفسها اسم «فوناكون» منع دخول عام 2006، وكان منطقهم بسيطاً، حيث لم يكن 2005 عاماً رائعاً بالنسبة لهم، واعتقدوا أن عام 2006 سيكون أسوأ، وبالتالي فقد كانوا يحاولون رمزياً إيقاف الوقت عن طريق الغناء وتحطيم ساعات الحائط، وكرروا محاولاتهم في العام التالي.

هذه الواقعة «الفانتازية» التي تبدو مجنونة في ظاهرها، تخفي وراءها محاولات جديدة تتعاطى مع التاريخ من منظور مختلف، فالتاريخ ما هو إلا حلبة لصراع البشر حول امتلاك الوقت، وهي رؤى معرفية وثقافية توظف حتى النظرية الماركسية لتأكيد أطروحاتها، ففائض القيمة الذي يحققه الرأسمالي من وراء العمال، ما هو في الحقيقة إلا فائض زمني تستمتع فيه الطبقات المخملية بأوقاتها على حساب الآخرين.

ويبدو أن الإحساس بالوقت قد أصبح هاجساً ملحاً ينتاب كثيراً من البشر، خاصة في هذا العصر الذي أصبنا فيه جميعاً بوباء السرعة. ولمقاومة ذلك أُطلقت منذ سنوات حركات عالمية «حركة البطء»، و«المعهد العالمي للبطء»، و«المدن البطيئة»، وكلها تركز على كيفية التعامل مع الوقت، والاستفادة منه والاستمتاع به، وحتى في العمل هناك دعوات من أجل التمهل، تستمد وجاهتها من أن الابتكار في أي شيء يحتاج إلى وقت، من أجل إنجاز العمل على الوجه الأكمل، هذا التمهل لا تسمح به الرأسمالية في مرحلتها المعولمة الآن، وما يفيض لنا من وقت بسيط تقوم بسرقته من خلال أدواتها التكنولوجية، وبتنا نعمل ونأكل ونكتب ونتنقل ونتسوق ونتكلم ونُدير علاقاتنا مع عائلاتنا بسرعة، لقد أصابتنا الرأسمالية باللهاث، ووصل الأمر ببعض علماء النفس إلى تأكيد أن السرعة باتت غريزة.

الأكثر أهمية في غريزة السرعة تلك، هو أن الإبداع الثقافي والفكري أصبح عرضة للخطر، فالأفكار التي تدفع إلى الأمام تحتاج إلى سنوات من النضج، وربما يفسر هذا أننا لم نعد نقرأ عن أطروحة موزونة في المراكز الفكرية العالمية الكبرى، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إن ذاكرة الإنسان نفسه تتعرض للخلل، فالذاكرة لكي تحتفظ لنا بكل ما مر بنا من أحلام وخيبات نستفيد منها في الراهن والمقبل، تحتاج إلى تأمل وتدبر للأحداث التي تمر بنا، وكلها أفعال لا تسمح بها غريزة السرعة، وعندما تختل الذاكرة وينتابنا شعور بأن كل الأشياء تمر ولا نستطيع الإمساك بها، ولو على مستوى الخيال، تنتشر اللامبالاة، وتصبح الأوقات جميعها متشابهة والزمن يفر من بين أصابعنا. 

أنْ «نعيش» معناه أن نتوقف لنبطئ من إيقاعنا؛ أن نتحرر قليلاً من أوقات مفروضة علينا، أو على الأقل نتناساها ولو لبرهة. أنْ «نعيش» معناه أن نقاوم لصوص الوقت، وأن نمتلك برهة من عاطفة صادقة وعين جمالية تتطلع بتؤدة في الكون الممتد من حولنا. هذه رسالة الإنسان في استثمار الوقت الذي هو أعدل الأشياء بين البشر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"