عبدالله السناوي
بقدر مرارة التجربة الإنسانية لأجيال متعاقبة من الفلسطينيين، الذين عانوا التهجير القسري وقسوة الحياة في المخيمات والشتات، استقرت إرادة التمسك بالأرض عند الأجيال الجديدة، مهما كانت التضحيات.
في المواجهات الأخيرة، التي شملت فلسطين التاريخية بكامل جغرافيتها ومكوناتها لأول مرة منذ نكبة (1948)، بدت القدس عنواناً أول لأية صدامات حدثت، أو محتملة.
برزت في المشهد المقدسي إرادتان على طرفي نقيض، إحداهما تطلب التوسع في الاستيطان وطرد السكان العرب من منازلهم بالبلدة القديمة، والأخرى تقاوم عنجهية القوة بكل ما تملك من طاقة مقاومة وقدرة إبداع لوسائل الاحتجاج السلمي؛ حتى لا تنزع من فوق أراضيها وتهود المدينة بالكامل، ويصبح هدم المسجد الأقصى مسألة وقت.
القضية الفلسطينية لا يمكن تلخيصها في مدينة القدس وحدها، غير أن للمدينة المقدسة سطوتها الرمزية الدينية والتاريخية، التي لا يمكن بأي حساب تجاهلها، أو غض الطرف عنها، حيث تتعلق بها مشاعر واعتقادات دينية حول المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.
حرية العقيدة وحرمة دور العبادة سؤال ضاغط وملح على الضمير الإنساني المعاصر وقيمه، التي ترفض المس بها والعدوان عليها.
وقف اقتحامات المسجد الأقصى ليس مسؤولية المقدسيين وحدهم، ولا الفلسطينيين كلهم، ولا العالمين العربي والإسلامي مجتمعين، هذه قضية إنسانية تتصل بمبادئ احترام دور العبادة والتعايش بين أصحاب الديانات المختلفة.
ثم إن هذه قضية سياسية وأمنية واستراتيجية لها أولوياتها بالنظر إلى التطورات الجارية في المدينة المقدسة، فإذا ما تواصلت الاقتحامات مدعومة من قوات الأمن الإسرائيلي فإن «الهدنة» التي جرى التوصل إليها بين إسرائيل والفصائل المسلحة الفلسطينية في غزة سوف تتقوض بأسرع من أي توقع، وتتبدد أحاديث السلام المنتظر.
ربما لهذا السبب حذر وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكن»، وهو يغادر المنطقة بعد جولة مباحثات شملت إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومصر والأردن، من أن مضيّ الدولة العبرية في إجراءاتها بحي «الشيخ جراح» يمكن أن يفجر الموقف من جديد.
لم يكن ذلك انحيازاً لأهالي الحي المقدسي، بقدر ما كان إدراكاً لمغبة التصعيد المنهجي في الأزمة التي أفضت تداعياتها إلى اتساع نطاق المواجهات إلى خلف الخط الأخضر في أوسع عملية احتجاج قام بها فلسطينيو الداخل منذ نكبة (1948)، ومن الاحتجاجات السلمية إلى اشتباكات السلاح على مدى أحد عشر يوماً، ضربت خلالها البنية التحتية وهدمت الأبراج والبنايات في غزة، وتألمت تل أبيب وعسقلان واللد كما لم يحدث من قبل.
بأية قراءة موضوعية فإن المدينة المقدسة -عند المسجد الأقصى وفي محيطه- كانت «نقطة التفجير»، حين جرت اقتحامات للمسجد ومحاولات لإخلاء حي «الشيخ جراح» من سكانه العرب، قبل أن تجري محاولة تكرار التجربة نفسها في حي «سلوان».
بلهجة غير مسبوقة أو معتادة في الخطاب الغربي الرسمي انتقد وزير الخارجية الفرنسي «جان إيف لودريان» ما يحدث من سياسات وإجراءات: «إن إسرائيل في طريقها لتصبح دولة فصل عنصري».
كانت تلك الصياغة تعبيراً عن نوع من الضجر من السياسات الإسرائيلية في المدينة المقدسة، وعدم إدراكها لخطورة تفجير الموقف، الذي حذر منه الوزير الأمريكي.
بقوة الصور حدثت خلخلة غير مسبوقة في مستويات التضامن الغربية التقليدية مع إسرائيل، وصلت إلى مراكز صناعة القرار في الولايات المتحدة نفسها.
لم يكن هناك من هو مستعد لتسويغ التهجير القسري في حي «الشيخ جراح» واستمرار عمليات اقتحام المسجد الأقصى خشية انفلات الحوادث عن أي قيد، فتدخل المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة لا يريدها أحد.
باليقين هناك اعتبارات أخلاقية وإنسانية ماثلة في المشهد، غير أن الحسابات الاستراتيجية والسياسية لها الكلمة الأولى.
فيما هو أخلاقي وإنساني تأثرت موجة التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية بتجربة «حركة حياة السود مهمة»، التي سادت الولايات المتحدة ومدن أوروبية عديدة، عقب مقتل الأمريكي الأسود «جورج فلويد» على يد شرطي أبيض دون أن يمنح فرصة تنفس.
تردد في الفضاء العام أن «حياة الفلسطينيين مهمة».. لم يكن ذلك تعاطفاً مع فصيل بعينه ولا مع سلطة بذاتها، إنه التعاطف الإنساني مع القضية الفلسطينية أكثر القضايا المعاصرة عدلاً.
إذا استعرت تعبيراً للأستاذ «محمد حسنين هيكل» ذات حوار بيننا عام (2007)، ضمنه رسالة نشرتها في حينه إلى حماة المسجد الأقصى، الذين يقاومون بالصدور العارية محاولات هدمه بالحفائر تحته، فإنه «قداسة التاريخ وتاريخ القداسة».
ذات حوار آخر عند منتصف تسعينات القرن الماضي أوقف البابا «شنودة الثالث» جهاز التسجيل: «حاشا لله أن يحدث ذلك، لكن لو افترضنا أنه قد جرى قصف المسجد الأقصى وقيل إن مجنوناً فعلها، فما الذي يمكن أن يفعله العالم العربي والإسلامي أكثر من بيانات الشجب والإدانة وبعض التظاهرات الغاضبة؟!».
لم تكن هناك إجابة عن سؤال أقلق وقتها الرجل، الذي أطلقت عليه «البابا العربي»، غير أن المؤكد أن لا شيء سوف يبقى على حاله في الإقليم كله ولا حجر فوق حجر.
ما هو ديني وروحي يرافق ما هو سياسي واستراتيجي في أية إجابات عن أسئلة المدينة المقدسة، وما قد تندفع إليه الحوادث في مقبل الأيام.