البداية من «عبقر»

23:09 مساء
قراءة 3 دقائق

كانت العرب تربط بين الشعر وبين العبقرية والجنون؛ ذلك لأنهم تحيروا من قوة الخيال الجامح، واستبعدوا أن يكون الشعر بما فيه من جمال وقوة أخيلة من فعل البشر، فنسجوا حكاية لا تخلو من الطرافة ولكنها عميقة الدلالات؛ إذ ظنوا أن شعراء الجن والكائنات الخرافية تسكن في وادٍ سحيق اسمه «عبقر»، ومنه جاءت صفة العبقرية، فمن أمسى ليلة في ذلك الوادي زاره شاعر أو شاعرة من تلك الكائنات لتلقنه الشعر، وأن كل شاعر من شعراء الجاهلية كان له قرين في ذلك الوادي؛ لذلك ليس صحيحاً أن العرب الأقدمين لم يهتموا بالتنظير للخيال، بل عظموا من مكانته إلى حد أن نسبوه إلى قوة خفية غير معلومة، لذلك هم نسبوا أجمل أشعارهم إلى إلهام غامض، ومن الدلالات المهمة المرتبطة بتلك القصة المتخيلة لوادي عبقر، تلك المكانة السامية للأدب، وما يحفل به من أخيلة وصور مصنوعة، ومشاهد مرفوعة بقوة الخيال عند الشعوب والأقوام والثقافات في كل أنحاء العالم منذ التاريخ السحيق وحتى الحاضر الراهن؛ لذلك فإن الناس ظلوا على الدوام يصفون صاحب العمل الإبداعي الجيد بأنه صاحب خيال واسع وتخيل بديع، أما الذي يأتي بقصيدة أو عمل أدبي ضعيف، فيوصف عادة بأنه صاحب خيال محدود.
ولابد أن في كل الثقافات العالمية قصة مثل حكاية وادي عبقر، تعظم من قدر الخيال الجامح الذي يقرن بالعبقرية وما هو خارق للطبيعة، فالعلاقة بين الأدب والخيال ليست تقابلية، بمعنى أنه ليس من الممكن أن نقول الأدب مقابل الخيال، باعتبار أن الخيال هو جزء لا يتجزأ من تكوين الإبداع الحقيقي المتقن، والأدباء في كل المجالات والضروب الإبداعية هم في بحث مستمر عن الجديد، وهو أمر لا يصلون إليه إلا برافعة التخيل.
والخيال في حقيقته هو عملية إرادية متعمدة، يقوم بها المبدعون من البشر أنفسهم، وليست جهة خفية أو غريبة عنهم، فهو قوة تشتغل على المعاني والوقائع، وتشيد منها صوراً ومشاهد بديعة؛ لذلك نجد أن الأدباء من كل حدب يتميزون عن غيرهم من الناس العاديين بحس الالتقاط العالي، يلتفتون إلى أشياء وتفاصيل لا يلتفت إليها أي شخص، ويرفعون من قيمتها الجمالية؛ لذلك فإن تاريخ تطور الأدب والفنون في كل المجتمعات هو في حقيقته تطور للوعي والخيال البشري، وفي توظيف ذلك الخيال، فلئن كان الأدب في العصور السحيقة يتميز بالعفوية ولأهداف مثل التسلية والسمر، فإن العصور الحديثة شهدت توجهاً نحو توظيف الشعر والنثر والرواية والسرد كأدب حديث نحو خدمة البشرية.
ونستطيع القول، إن المدارس والاتجاهات الأدبية الحديثة هي نتاج تطور الخيال الإبداعي في الشعر والسرد، خاصة الرواية التي صارت هي الجنس الإبداعي الأبرز في هذا العصر، فتيارات الأدب الحديث عملت على تحديد علاقتها مع الخيال من حيث الإفراط أو التعامل معه بقدر معين أو لهدف معين، فمدارس مثل الوجودية والواقعية، على سبيل المثال، أرادت أن توظف الخيال لمصلحة الواقع والفكر، بينما هنالك اتجاهات أخرى ضيقت المسافة بين ما هو متخيل وما هو واقعي، مثل السوريالية والكابوسية؛ لذلك فإن الفرق بين أي تيار أدبي وآخر هو الموقف من الخيال وعلاقته بالواقع والمجتمع.
بل وشهد الأدب صراعاً حول الخيال، فلئن كانت الواقعية الاشتراكية وغيرها من مدارس أدبية وفكرية أرادت أن توظف الخيال الإبداعي لمصلحة أيديولوجية معينة، وتفرضها على البشر باسم الجماهير والأحلام، وحتى الرأسمالية الحديثة أرادت أن تبتلع الأدب لتعيد إنتاجه في صورة سلع، فإن الواقعية السحرية التي انتشرت في أمريكا اللاتينية وتغلغلت وسط مجتمعاتها بصورة كبيرة، كانت بمثابة التمرد على تلك الواقعيات التي أرادت أن تصادر الأدب والخيال لمصلحة مشاريع سياسية أيديولوجية، فكان انتصارها سهلاً؛ لأن الخيال لا تحدّه حدود ولا تقيده قيود.
لقد أصبح للخيال وظيفة جديدة تقطع مع القديمة المتمثلة في مجرد التسلية، لذلك فإن الأدب اليوم في عصرنا الحالي، والسرد بصورة خاصة، تطور بصورة سريعة ومن الواضح أن التكنولوجيا الحديثة، بعكس ما يشاع، لم تحدد من قدرة الخيال، بقدر ما أنها حررت طاقته، عندما أسس لعالم افتراضي شيد على أساس المخيلة، وكان لذلك تأثيره الكبير على أجيال جديدة من البشر تربت على خيال غير محدود، الأمر الذي سيكون له انعكاساته على الأدب وتطوره من جديد في المستقبل القريب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"