إنسان ما بعد الأفكار

00:42 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

لقد اختفت الأفكار الكبرى، مقولة قديمة أعلنها الكثيرون بصيغ مختلفة مع نهايات القرن الماضي. ولكن الجديد الذي نطالعه منذ عدة سنوات تلك الكتابات التي تتحدث عن إنسان «ما بعد الأفكار الكبرى»، هذا الإنسان تتعدد ملامحه حتى تصل إلى درجة التشظي، فهو يعيش حالة لا مبالاة لدى البعض، أو تتسم حياته بالفوضى كما يذهب البعض الآخر، إنسان استهلاكي لا يهمه إلا لحظته الآنية من دون أية هموم مستقبلية، ولا هدف له في الحياة، وقته مخصص لمواقع التواصل الاجتماعي، وعلى شفا المرض ب«الأنوميا»، فقدان الإحساس بأي قيمة، بل هو كائن ربما سيتم تجاوزه إلى نوع آخر.. «سايبورغ» أو «روبوت»، وتختلف هذه الرؤى التي توصّف واقع الإنسان ومستقبله وفقاً لمنطلق وتخصص صاحبها، ولكنها تجمع كلها على أن الإنسان من دون فكرة يعاني من مأزق مأساوي. 

 ولكن كيف نتجاوز هذا الوضع غير المريح؟ وهل الحل لدى من يرسم هذه الملامح، ويروج لتلك المقولات يتمثل في ضرورة البحث عن فكرة كبرى جديدة؟ في أعمال كثيرة تناقش هذه المسألة، هناك تخوف واضح من الفكرة الكبرى نفسها، يطرح المفكر وعالم النفس الكندي جوردان بيترسون في كتابه «12 قاعدة للحياة.. ترياق للفوضى»، القضية بشكل جدلي، ففي ذلك الكتاب التنظيري الضخم، يعتبر بيترسون أن الأفكار الكبرى ضرورية لصحة الإنسان النفسية، فمن دونها يصاب البشر باليأس، ولكنها في الوقت نفسه لم تؤدِّ، على مدار التاريخ، إلا إلى الصراع والحروب والتطاحن بين مختلف الأيديولوجيات، ومن هنا المفارقة. بل ويعتقد بيترسون أن تلك المفارقة ستكون قضية القرن الحادي والعشرين بأكمله، كيف نمنح الأمل للبشر في عالم يخلو من الأفكار؟.

 الحل لدى بيترسون وعشرات غيره يكمن في الخلاص الفردي، وهو ما نلاحظه في عشرات الإصدارات التي نجدها كل يوم، وتتحدث بحميمية إلى كل إنسان على حدة، بل والأكثر أهمية أنه برغم اختلاف مستوى وعمق هذه الإصدارات، إلا أن معظمها ينتمي إلى فئة «الكتب الأكثر مبيعاً»، وكلها تؤكد توجهاً نحو ترسيخ الفرد الأناني الذي لا يهتم بمشاكل ومعاناة الآخرين.

 هل انتهت الأفكار الكبرى، أم أراد لها الكثيرون ذلك؟ ولكن قبل هذا السؤال، علينا أن نسأل: هل يخلو عالم ما بعد الأيديولوجيات من صراع؟ وهل وصل العالم إلى سلام بين مختلف الهويات والأعراق؟ وهل الأيديولوجيا مسؤولة تماماً عن الحرب والتطاحن بين البشر؟ وهل كنا ننعم بالهدوء والأمن قبل نشأة المنظومات الفكرية التاريخية؟ هي أسئلة لا يطرحها بيترسون وغيره، فمعضلة من يؤسسون لتلك الفكرة الكبرى: «موت الأيديولوجيات»، تتمثل في إشكالية تعيشها الرأسمالية، فلم تعد مشاعر مثل اللامبالاة والإحباط وصولاً إلى العدمية تقتصر على النخب، ولكنها وصلت إلى قطاعات أوسع من البشر، ما يؤكد أن المنظومة الفلسفية الحاكمة للرأسمالية توقفت عن إنتاج محفزات الأمل، من هنا الخطر الذي تواجهه تلك المنظومة، ولا يبقى أمامها إلا محاولة صناعة فكرة كبرى جديدة تتمثل في ترويج الفردية المطلقة، والتي سيكشف المستقبل عن وجهها القبيح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"