العودة الأمريكية المؤجلة

00:40 صباحا
قراءة 3 دقائق

عاصم عبد الخالق

لم تفعل الولايات المتحدة غير ما كان متوقعاً منذ بداية الحرب في غزة؛ تدخلت للتهدئة ومنع امتداد الصراع أو تفاقم الأزمة بأكثر مما تريد. وكما هو متوقع أيضاً لن تمضي أبعد كثيراً من ذلك، ولا يعني إرسال وزير خارجيتها أو أي مسؤول آخر إلى المنطقة أنها قررت استئناف دورها القديم وإحياء عملية السلام أو طرح مبادرات جديدة.

 حدود التحرك الأمريكي الحالي معلنة وواضحة وهي لا تتجاوز تثبيت الهدنة، وتقديم مساعدات إنسانية للفلسطينيين في غزة، ومساعدة إسرائيل على تطوير منظومة القبة الحديدية لاعتراض الصورايخ بعد الثغرات الخطيرة التي كشفتها الحرب. وعلى حد قول «أرون ديفيد ميلر» مبعوث السلام الأمريكي السابق في المنطقة ونيل كورتز سفير أمريكا السابق في مصر ثم إسرائيل، في تقرير مشترك لهما نشرها على موقع شبكة «سي إن إن»، فقد كان الصراع الأخير في غزة مفاجأة غير سعيدة للرئيس الأمريكي جو بايدن. ونضيف من جانبنا أنه كان أيضا مفاجأة في وقت غير مناسب.

 أولويات بايدن الخارجية معروفة منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض وهي الصين، والتغييرات المناخية، وإيران. أما الشرق الأوسط، بقضاياه وأزماته فليس على رأس القائمة وربما لا يكون ضمن بنودها من الأصل.

 للرئيس الأمريكي خبرة طويلة في السياسة الخارجية منذ أن كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، ثم نائباً للرئيس باراك أوباما لمدة ثماني سنوات. وهو يعرف تماماً أن فرص تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الوقت الحالي شبه معدومة. لقد حاول أوباما وفشل وهو غير مستعد لتكرار محاولة لا أمل في نجاحها. لاسيما وأنه قد لا يبقى سوى مدة رئاسية واحدة حيث سيكون في الثانية والثمانين من العمر عندما تنتهي فترته الحالية.

 لن تتورط واشنطن مرة أخرى، على الأقل في المستقبل القريب، في قضية الصراع العربي الإسرائيلي؛ بل في مجمل قضايا الشرق الأوسط. وهذا الموقف ليس إجراء تكتيكياً؛ بل تحول استراتيجي في السياسة الخارجية الأمريكية، لم يبدأ في عهد بايدن لكن منذ انتهاء حرب العراق بما أسفرت عنه من كارثة بشرية واقتصادية. قطع أوباما الخطوة الأولى ثم سار على نهجه ترامب والآن بايدن.

 التحول الأمريكي الجديد يرفع شعار الحد الأدنى من التورط على حد وصف صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية. أي أن واشنطن تعرف الأهمية الاستراتجية للمنطقة ولديها بالطبع مصالح حيوية فيها، وسيكون هدفها الأول تأمين هذه المصالح دون التورط في أزمات أو حروب. وإذا كان لابد من التدخل العسكري فليكن من خلال الوكلاء والحلفاء على أن تكتفي بتقديم الدعم الاستخباري والتخطيط والقيادة، وشنّ هجمات جوية أو صاروخية عند الضرورة.

 لن تلعب واشنطن دور شرطي المنطقة أو حتى رجل الإسعاف والإنقاذ، ستترك للآخرين أعباء الأمن تحت إشرافها. وعبر هذا التكتيك ستواصل الحفاظ على أهدافها الأربعة الثابتة وهي احتواء إيران، ومحاربة الإرهاب، وتأمين مصادر الطاقة وخطوط الإمداد للحلفاء، وحماية إسرائيل ودعمها.

 وإذا كانت أهدافها في المنطقة معروفة، فإن دوافعها للابتعاد عن أزماتها معروفة أيضاً. في مقدمتها الدروس الأليمة التي تعلمتها من تجربة غزو العراق، ثم انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يجبرها على البقاء في المنطقة لتقويض النفوذ الأحمر. سبب ثالث هو قدرتها على الاستقلال بترولياً عن المنطقة بعد أن أصبح لديها فائض في الإنتاج المحلي يكفي للتصدير. يضاف لذلك أن اهتمامها بشرق آسيا أصبح يتجاوز اهتمامها بالشرق الأوسط، خاصة مع الصعود الصيني الضخم واحتدام المنافسة بين العملاقين.

 أما بالنسبة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي فثمة سبب آخر منطقي يدفع بايدن لتجنب طرح مبادرات جادة وهو ثقته المطلقة في أن القيادة الحالية على كل جانب غير قادرة أو مستعدة لاتخاذ قرارات صعبة بسبب ظروف داخلية معقدة. ومن ثم فإن التهدئة، ولا شيء أكثر، تبقى الخيار الأنسب وربما الوحيد في الوقت الراهن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"