إبادات واعترافات

00:09 صباحا
قراءة 3 دقائق

شكّل اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمساهمة بلاده في جرائم الإبادة الجماعية، التي وقعت في راوندا العام 1994، حدثاً لافتاً في الآونة الأخيرة، خاصّة بعد أن دعا ماكرون منذ انتخابه إلى إعادة النظر في التاريخ الاستعماري لفرنسا في الجزائر، ما يعني إقراره بمسؤولية فرنسا التاريخية في الجرائم الاستعمارية.
 هذه الاعترافات، تأتي في سياق مراجعات تاريخية ظلت القوى الاستعمارية تنكرها على مدى عقود من الزمن. ولكن ليس من الثابت أنّه وحتى في ظلّ وجود محاكم دولية لمعاقبة مجرمي الحروب، وحتى في ظل وجود مجلس حقوق الإنسان، أنّ مثل هذه المآسي لن تتكرر مستقبلاً، وأن القوى الدولية لن تصمت أو لن تساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في ارتكاب مثل هذه الجرائم التي تعتبر من أعقد الانتهاكات لحقوق الإنسان وأكثرها إفلاتاً من العقاب.
 وعلى خطى فرنسا اعترفت ألمانيا بارتكابها جرائم حرب في دولة ناميبيا الإفريقية، فبعد أكثر من قرن على ارتكاب فظائع بحق شعبي «هيرير وناما» في ناميبيا، اعترفت ألمانيا بأن تلك الأعمال كانت «إبادة جماعية» تم ارتكابها خلال فترة استعمارها لهذا البلد الإفريقي، وتعهدت بتقديم مساعدات تنموية بأكثر من مليار يورو. وقال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في بيان إنّه «اعتباراً من اليوم ( منذ نحو أسبوع) سنصنف رسمياً هذه الحوادث بما هي عليه في منظور اليوم: إبادة جماعية». ورحب ماس في بيانه بتوصل ألمانيا وناميبيا إلى «اتفاق» بعد مفاوضات شاقّة استمرت أكثر من خمس سنوات وتمحورت حول الأحداث التي جرت إبّان الاحتلال الألماني للبلد الواقع في جنوب غرب إفريقيا (1884 – 1915). وبين عامي 1904 و1908 قُتل عشرات الآلاف من أبناء شعبي هيريرو وناما في مذابح ارتكبها مستوطنون ألمان واعتبرها العديد من المؤرّخين أول إبادة جماعية في القرن العشرين. وفي بيانه قال الوزير الألماني إنه «في ضوء المسؤولية التاريخية والأخلاقية لألمانيا، سنطلب الصفح من ناميبيا ومن أحفاد الضحايا» عن «الفظائع» التي ارتكبت بحقّهم».
 أما الرئيس الفرنسي الذي زار بدوره العاصمة الراوندية كيجالي، فقد قال «جئت للاعتراف بمسؤولياتنا»، مضيفاً، آمل من «الذين عبروا الليل أن يغفروا لنا». وقبل سنوات اعترفت إيطاليا بالذنب الذي ارتكبته زمن استعمارها لليبيا، وتوصلت فعلاً مع نظام القذافي لمصالحة تاريخية تم بمقتضاها التعويض للّيبيين عن فترة الاستعمار. لكن سنوات قليلة بعد ذلك، عادت إيطاليا لتشارك ضمن حلف الناتو لإسقاط النظام والدولة الليبية، ولتلحق الأذى بشعب لم تمر سنوات قليلة على الاعتراف بأنها ارتكبت في حقه مجازر. 
 إنّ مثل هذه الاعترافات مهمّة وإن كانت غير ذات مفاعيل حقيقيّة، خاصّة في مجالي التنّمية البشريّة وفي تكريس المفاهيم الكونيّة لحقوق الإنسان. لقد استعمرت أوروبا «موطن حقوق الإنسان» قارّة إفريقيا ومناطق أخرى من آسيا، ولا يخفي المؤرّخون أنّ تلك الفترات الاستعماريّة قد ألحقت الأذى بأناس أبرياء لا ذنب لهم سوى أنّ أراضيهم كانت تختزن ثروات طبيعية أسالت لعاب المستعمرين القادمين من الشمال. ولكن حتى بعد أن قدمت تلك الدول الفقيرة دماء ثمينة للتحرّر، فإنّ القوى العظمى ظلّت تنظر إلى شعوبها وكأنها شعوب من درجة ثانية، بالرغم من استمرار تلك القوى في الاستفادة من تلك الخيرات، إلى يومنا هذا تحت غطاء الاستثمار والتعاون المشترك. وحتى في هذا الزّمن المعولم، أي الذي تمّ فيه التنظير للعولمة حلاًّ سحريّاً لمشاكل الفقر والجوع والأميّة، وبالرغم من الآمال العراض التي تم تسويقها، إلاّ أنّ العالم يزداد ظلماً وقهراً للشعوب التي عانت على مدى قرنين من الزمن عبوديّة متنوّعة الأشكال.
 جميل أن تعترف فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها من الدول عن الجرائم التي ارتكبت زمن الحقبة الاستعماريّة، ولكن هل ستعمل فعلاً على نشر الرخاء والرفاه لتلك الشعوب حتى لا يظلّ أبناؤها يلقون بأنفسهم في البحار والمحيطات من أجل الوصول إلى دول الشمال. إنّ أوروبا التي تقوم الآن بمحاولات هجرة عكسية نحو القارة السمراء من أجل إعادة التموقع فيها في ظل عودة التنافس العالمي عليها، هل يمكنها أن تقبل فتح أبوابها أمام تلك الأفواج البشرية العابرة للمتوسط، وأن تستقبلها أحسن استقبال؟ لو فعلت ذلك فسيكون ذلك أفضل اعتذار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"