اللسان السياسي الدوّار

01:01 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

ما إن عيّن النواب العائدون من الطائف نوّاباً اختاروهم فقط لتعبئة الشغور الحاصل في البرلمان، حتّى دُفنت الديمقراطية. طرحتُ اتفاق الطائف على طاولة البحث الأكاديمي لطلابي في كلية الإعلام، والعديد منهم صاروا وزراء ونواباً وإعلاميين مرموقين في لبنان والخارج. قمنا خلال عام دراسي كامل (1991- 1992) بتشريح نصّ وثائق الطائف والدستور، ووقفنا في مقابلات على آراء بعض النوّاب الذين شاركوا في إقرار الدستور الجديد، إلى شخصيّات روحية وسياسية. حمل الطلاّب تساؤلاتهم العفوية والصريحة للدكتور سليم الحص، إدمون رزق، جورج سعادة، محسن دلّول، نجاح واكيم، زكي مزبودي، عُثمان الدنا، بيار دكّاش، محمد بيضون، سايد عقل، نايلة معوّض، نسيب لحود، سمير جعجع، المطران رولان أبو جودة، محمد حسين فضل الله، المطران جورج خضر، فيصل السيّد، كريم بقرادوني، منح الصلح، واللائحة طويلة.

 ناقشنا ودوّنا الكثير من الملاحظات متفاهمين على الكتمان، بعدما اكتشفنا أنّ معظم أهل الطائف يشبهون الليل والنهار في تبدّل مواقفهم بين المُعلن والمُضمر في دستور الطائف. ظهر الدستور اتّفاقاً بلا روحية، والوطن يُنذر بالكوارث، مع أننا لم نتمكّن يومها من الحصول على الملاحق والتواقيع والضمانات من اللجنة العربية العليا (المملكة العربية السعودية، المملكة المغربيّة والجزائر)، وكذلك الاتّفاقات الجانبية المنبثقة عن وثيقة الاتّفاق، وكلها أعادت النظر في الكثير من النتائج الصادمة بما أوقعنا في التشاؤم. جمعنا المقابلات في سفرٍ مخطوط (344 صفحة) مجلّد بعنوان «شاخت الجمهورية الثانية في عامها الثالث».

 لماذا الثالث؟ لأن الرقم «ثلاثة» مقدّس في الفلسفات القديمة والحديثة، حتى أن علماء النفس والتربية ينصحون برعاية الأطفال جيداً خلال السنوات الثلاث الأولى من أعمارهم، لأن ملامح الشخصية القاعدية تتكون خلال هذه السنوات.

 وسرعان ما لمسنا بالممارسة والخلافات السياسية استحالة الخروج من تاريخ ممارسة السلطات المحفورة في الجينات.

 مثال سريع: قال نائب مسيحي من الذين شاركوا في وضع دستورٍ جديد للبنان في مقابلته: «إنّ اتفاق الطائف سقط قبل أن يجفّ حبره، لأنّ النص مطلوب، بل مفروض لأن يكون على قياس بعض الأشخاص، إذ كان يجب توسيع اللباس أو تضييقه أو قصه». وقال نائب مسيحي آخر أصبح وزيراً مرّتين، وشديد الحماس للدستور الجديد، كأنه أحد المُوكل إليهم مهمة تسويق الطائف الشاقة في الإعلام: «إن الطائف ينهار قبل أن يبدأ. إنّه على وشك النهاية».

 ألا تدعو هاتان اللمحتان للاستغراب يومذاك بما يجعلنا ندرك بعد 33 سنة، بعقلانية واعية فنستوعب بكلّ أريحيّة ونضج وخارج كلّ هذه الانهيارات والتقاذفات والتهديدات بتعداد المواطنين مجدداً أو بوقف تعدادهم طائفياً على ما أعلن نهائياً الرئيس رفيق الحريري، أن كلّ ما حصل ويحصل قبل ال2005 تاريخ اغتياله، وبعده، لا علاقة وحيدة له بالخارج لولا هشاشة الداخل، وليس هو نتاج تدخلات الخارج فقط، بل سلوك رسّخته أمراض الازدواجية في القول والسلوك والحكم.

 قد يُطرح سؤال مُلحّ: لماذا لم تُنشر هذه المخطوطة بعدما أتعب لبنان الزمان وأهله؟

لأنها كانت سترفع الأغطية عن مرض الازدواجيات في ألسنة أهل السياسة في لبنان ومواقفهم. كان نشرها مسؤولية أخلاقية ووطنية لكونها مقابلات حرّة ومفتوحة ولأغراض جامعية، لم نعدّها أساساً للنشر، بل للاحتفاظ بها كوثائق يسمح الزمن بنشرها لأمور ملحّة وضرورية.

 نعم ملحّة، وإنني أنقل مترجماً بخجل ما كتبه الجنرال هنري دينتز (1881-1945) الحاكم العسكري للبنان في مذكّراته إبّان الحرب العالمية الثانية: «كنت ممثلاً لحكومة فيشي في لبنان، وعلى تواصل مع المخابرات الألمانية. وكنت، في الوقت نفسه، أعمل بسريّة تحت قيادة ديجول لتحرير فرنسا من الاحتلال الألماني. أذهلتني، خلال خدمتي هذه، الطبقة السياسية في لبنان، إذ كانوا يتوافدون إلى مكتبي معلنين تأييدهم لحكومة فيشي وللألمان، وكانت تصلني تقاريرهم إلى مكتبي مركزين فيها على اتهام بعضهم بعضاً بالعمالة لبريطانيا وديجول. وعندما كان يصلني البريد السري من ديجول كنتُ أُفاجأ بأن هؤلاء الأشخاص أنفسهم يراسلون ديجول سرّاً معلنين الوفاء له ولفرنسا الحُرّة، ويتّهمون بعضهم بعضاً بالعمالة لحكومة فيشي. كانوا يستفيدون من الجميع، ويبيعون كل شيء، وحين أسألهم عن مطلبهم يجيبون: نريد لبنان سيداً حراً مستقلاً...».. لا داعي للاستمرار في النقل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"