السد العالي.. والسد الآخر

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

كان تحويل مجرى نهر النيل في (18) يونيو (1964)، قبل (57) عاماً، حدثاً مدوياً لا نظير له في التاريخ المصري الحديث.

 في ذلك اليوم البعيد، بدت مصر كما لو أنها على موعد مع التاريخ والآمال المفتوحة على المستقبل، ببناء سد عالٍ يحميها من الجفاف والفيضانات، يوسع الرقعة الزراعية ويدخل البلد عصر التصنيع الثقيل والكهرباء إلى كل بيت.

 لم يكن رفض البنك الدولي تمويل مشروع بناء السد العالي، السبب الرئيسي لتأميم قناة السويس عام (1956) بالفعل ورد الفعل.

 منذ احتلال مصر (1882) وهي تتطلع إلى هذا اليوم، الذي تستعيد فيه الشعور بالكبرياء الوطني، والقدرة على الدفاع عن حقوقها الأصلية.

 الكلام عن استعادة قناة السويس دون تأميم، أو قتال، أقرب إلى الخزعبلات السياسية. بعد تحدي السويس خرجت مصر قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التي لا يمكن تجاهلها.

 اكتسبت مصر أدوارها القيادية في إفريقيا بوضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزانًا استثنائية في عالمها الثالث بإلهام أن دولة نامية واجهت تحدّياً شبه مستحيل وكسبته.

 جرى بناء السد العالي أكبر وأعظم مشروع هندسي في العالم بالقرن العشرين، وبنت ثورة «يوليو» بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات وعمّرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى، انحازت إلى قوى الإنتاج والطبقات الأكثر حرماناً.

 لم يكن تأميم القناة سوى خطوة في مشروع امتد إلى كل مناحي تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعي.

 السياسات أخذت زخمها من قوة الفعل وحجم التطلع إلى تحسين أحوال المواطنين، وأخذت تتبلور من خطوة إلى أخرى حتى اكتسبت «يوليو» مشروعها.

 في حرب السويس اكتشفت مصر نفسها من جديد، وبدت أمام «الباب المفتوح»  وفق رواية الدكتورة «لطيفة الزيات» عن تلك الفترة والروح التي بثتها.

 جرت أحداث الرواية بين عامي (١٩٤٦) حيث ولد جيل جديد صاغت تجربته حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية، و(١٩٥٦) حيث ألهمت حرب السويس روحاً استقلالية وتحررية ونظرة مختلفة لقضية المرأة، كما لخصتها «ليلى» بطلة النص الروائي، التي تمردت على قيودها ونظرة المجتمع إلى دور المرأة، واكتسبت حقها في الحرية بالانضمام إلى الفدائيين في بورسعيد إسعافًا لجرحى، وتضميدًا لآلام.

 في تجربة الحرب، تأكدت حقيقة أساسية أن من يقاتلون ويدفعون فواتير الدم هم أصحاب الحق الأصيل في البلد، في الصحة والتعليم وحق العمل والترقي بالكفاءة دون تمييز بين امرأة ورجل.

 لم تكن معركة بناء السد العالي نزهة نيلية بقدر ما كانت تجسيداً لطلب التنمية في أجواء تحدٍّ واستعداد لدفع كافة التكاليف.

 المقارنة تكاد أن تكون شبه مستحيلة بين السدين، المصري والإثيوبي، من حيث طبيعة أهداف ومعارك كل منهما. الشيء الوحيد المشترك هو طلب الحق في التنمية والكهرباء.

لم تعتد مصر على أحد في معركة بناء السد العالي، بل كانت موضوعاً للاعتداء حتى لا تنهض وتكتسب استقلال قرارها الاقتصادي بعد أن انتزعت في حرب السويس استقلال قرارها السياسي.

 ولا جارت على الحقوق المائية لأحد؛ فمصر دولة مصب يتوقف عندها جريان نهر النيل، وليست دولة منبع.

 لم يكن السد العالي سوى معركة في حرب حقيقية حول المنطقة  بند في مشروع، وليس كل المشروع.

 أي مشروع يكتسب قيمته من قدرته على صياغة إرادة التغيير في مجتمعه، بما يتسق مع احتياجاته وفق رؤية للمكان والزمان والإنسان.

 أسس السد العالي لبناء قطاع عام قوي وقادر على التنمية والوفاء بمتطلبات الانتقال إلى عصر جديد أكثر عدلًا اجتماعيًا، كما أسس لاتساع الخدمات الصحية والتعليمية وجودة الحياة وتكافؤ الفرص.

 اكتسب السد العالي رمزيته من سياق مشروعه. بعد معركة السد العالي أعادت الفكرة طرح نفسها حتى وجدت فرصتها في السنوات العشر الأخيرة.

تراجعت أفكار التعاون الإقليمي الضروري بين دول حوض النيل، وسادت مشاعر الكراهية حتى كاد شريان الحياة أن يتسمم بتلك الأجواء.

 بعد ثلاث سنوات بالضبط من تحويل مجرى النيل، تعرضت مصر إلى هزيمة عسكرية في (5) يونيو (1967)، كان مشروعها التنموي في صلب أهداف ما جرى.

كل ما يستطيعه السد العالي الآن أن يؤجل انفجار أزمة شح المياه لثلاث سنوات، إذا ما تفاقمت دون حل أو تسوية بالوسائل السياسية أو بغيرها، بتعويض العجز من مخزون بحيرته، التي توصف بأنها واحدة من أكبر البحيرات الصناعية في العالم، وتبلغ قدرتها التخزينية (165) مليار متر مكعب.

المأساة السودانية أفدح وعاجلة، غير أن تبعاتها الكاملة سوف تصل مصر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"