عادي
متهوّر ومنفعل في الشعر السياسي

الحب وردة بابلو نيرودا الأخيرة

22:55 مساء
قراءة 4 دقائق
3

الشارقة: يوسف أبولوز

العودة إلى كتب السبعينات والثمانينات بالنسبة لقارئ في الستين من عمره هي عودة حنينية إلى زمن الشباب في النصف الثاني من القرن العشرين، نصف التفاحة أو نصف البرتقالة لا فرق، فقد كانت هذه الفترة أجمل أيام كاتب هذه السطور، ومن تلك الجماليات التي يتوجه إليها الحنين تلك الكتب التي كانت تباع على الأرصفة أو في الأكشاك الصغيرة المنصوبة في شوارع وسط البلد في عَمّان.

لم تكن ظاهرة كتب الرصيف وكتب الأكشاك مقتصرة على العاصمة الأردنية؛ بل هي سوق الكتب المفتوحة تحت الشمس كتب رصيف وكتب أكشاك في ميدان التحرير في القاهرة، وفي شارع المتنبي في بغداد، وكتب أدب وسياسة وفلسفة في شارع الصالحية وساحة المرجة في دمشق، وهكذا كانت كتب تلك الحقبة الحلوة فعلاً هي كتب شبابنا الأول. كتب في الحب، وأخرى في السياسة، وثالثة في الأديان والحضارات والأساطير والعقائد والمعتقدات.

أيضاً، إذا كنت تحنّ إلى كتب السبعينات والثمانينات، فسوف يأخذك حنينك بالضرورة إلى دور نشر تلك الحقبات البيروتية، والدمشقية، والبغدادية، والقاهرية، وسوف تتذكر العبارة المعروفة آنذاك: القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ، وأرجو أن تكون ذاكرتي جيدة في نقل هذه العبارة إلى القارئ، فاليوم اختلفت الأدوار، وتغيّرت العواصم، وبعض ممّا كان يُسّمى هامشاً في الثقافة العربية أصبح مركزاً، والعكس صحيح: ما كان مركزاً أصبح هامشاً، وفي كل الأحوال، دعنا ندور في فلك الحنين إلى كتب الأدب، ومنها كتب الشعر.

لم تكن دار الفارابي في بيروت من أنشط دور النشر في لبنان وبلاد الشام فقط؛ بل وعلى المستوى العربي الثقافي والنشري. تأسست دار الفارابي في عام 1956، ومن الكتب الصادرة عنها في عام 1979 مجموعة للشاعر بابلو نيرودا لم يتوجّه إليها الحنين فقط الآن لقراءتها، بل، تقرأ هذه المجموعة الشعرية الصغيرة في ضوء السؤال التالي: يا تُرى.. ما الذي بقي من شعر نيرودا 1904-1973 حين تقرأ هذه المجموعة التي جاءت تحت عنوان حادّ صارخ: «الحثّ على إبادة نيكسون والإشادة بالثورة التشيلية».. ترجمة: الطبيب الرباحي، وهل هناك أكثر عنفاً ومباشرة من هذا العنوان التحريضي الانفعالي؟، لا بل إن هذا الكتيّب الصغير الذي جاء في 110 صفحات من القطع الصغير ينوء بثقل الشعار السياسي والخطبة الأيديولوجية الرنّانة، وهي كانت سمة شعر تلك الفترة السبعينية والثمانينية؛ لكن الكثير من الشعراء قفزوا من الشعار والسياسة والأيديولوجيا، وفرّوا بجلودهم إلى شعر الحب والإنسان.

نيرودا نفسه.. ما الذي تبقّى منه في هذه المجموعة النارية؟.. لا شيء. إنه هنا شاعر منبري تماماً، مؤدلج ومسيّس حتى العظم، فلم يبق منه الآن إلاّ العظم أو الهيكل العظمي؛ لذلك الشعر الشعاراتي التحريضي المُبالَغ في خطابيته بل وتهوّره..

يقول مثلاً:

«المجد للانتصار الأثير/ المجد للشعب الذي توصّل أخيراً/ إلى إثبات حقّه في الحياة/ ولكن نيكسون/ هذا الجرذ المتعوّد على أكل الجبن/

الحانق على وطني، والمتطلّع إلى خرابه/ قَدْ أوقف بخداع تعامله مع إدواردو/ فغيّر السفير والجواسيس/ وأحاطنا بالأسلاك الشائكة/ واعترض على سوقنا المستقلّة/ كي تموت امّتنا جوعاً».

إلهام

أكثر من ذلك كان نيرودا شاعر شتائم وتوصيفات لا تعيش أكثر من لحظتها السياسية، وبالفعل فإن هذا الشعر وغيره من أشعار مسيّسة أيديولوجية للعشرات ممّن كانوا أسرى التحريض لم يعمّر طويلاً، ولكن نيرودا سيعيش ويظل متألقاً ومضيئاً في شعر آخر له مختلف كلياً عن الشتيمة والتحريض والتعبئة. إنه شعر الحب والإنسانية والتفاصيل الآدمية البشرية البسيطة.

«ماتيلدا».. تلك هي المرأة التي ألهمت نيرودا الشعر الحيّ الذي يعيش في الزمن والتاريخ والذاكرة، شعر لا يسقط بالتزامن أو مع مرور الوقت، ويُنسى، كما تنسى الأيديولوجيات والشعارات السياسية الرنّانة التي كانت ترفع مقولات وعناوين شعبية احتفالية مثل: الحرية، والديمقراطية، والعدالة؛ وإذ بكل هذه اليافطات مجرد كذب في كذب.

لم يبق من شعر بابلو نيرودا إلاّ ما قيل في زوجته الثانية «ماتيلدا». لم يبق من نيرودا السياسة والعنف والتحريض؛ بل بقي منه شعر الحب.

يقول في كتابه: «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة»:

«أتذكرك مثلما كنت في الخريف الفائت/ قبعة رمادية وقلب هادئ في عينيك تتقّد أَلِسَنَةُ الشفق وتسقط الأوراق في مياه روحك/ متشبّثة بذراعي/ مثل نبتة متسلّقة تلملم أوراقُها/ صَوْتَك المتمهّل والهادئ لهب من ذهول تحترق فيه ذاتي/ سنبلة برّية عذبة زرقاء تعانق روحي..».

وفي مكان آخر نقرأ عذوبة شعرية أخرى تتعجب حيالها كيف كان نيرودا عنيفاً غليظاً شعاراتياً سياسياً جافّاً في مكان، وهو نفسه، في مكان آخر بسيط، عاشق يتشبّث في وردة.. يقول:«أيتها النحلة البيضاء التي تحوم داخل روحي / وتدورين متمهّلة كالتفاف الدخان/ أنا اليائس/ الكلمة بلا أصداء الذي فَقَدَ كلَّ شيء/ وكان لديه كل شيء أيتها المرساة الأخيرة/ يصر في أعماقك اشتياقي الأخير /أنت الوردة الأخيرة في أرضي القاحلة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"