درويش آخر

00:23 صباحا
قراءة دقيقتين

كتب محمود درويش النثر بحبر الشعر في كتابه الحواري السردي «ذاكرة للنسيان»، كأن الشعر لا يتخلّص من جوهره الكتابي أو روحه اللغوية الجمالية. في «ذاكرة للنسيان» نقرأ «درويش» الناثر على هذا النحو الشعري: «الساعة الثالثة. فجرٌ محمولٌ على النار. كابوس يأتي من البحر. ديوك معدنية. دخان. حديد يُعَدُّ وليمة الحديد السيّد، وفجر يندلع في الحواسّ كلّها قبل أن يظهر، وهدير يطردني من السرير، ويرميني في هذا الممرّ الضيق. ولا أريد شيئاً. لا أتمنى شيئاً».
صور متلاحقة، وجمل قصيرة، ومن مميزات النثر الجميل تلك الجمل القصيرة بشكل خاص. الجمل الطويلة تقتل الشعر أو تقتل الشعرية التي يحملها النثر.
محمود درويش في «ذاكرة للنسيان» شاعر أفقي إن جازت العبارة. ذلك أن النثر هو فضاء أفقي. أما القصيدة، فهي عمودية دائماً حتى لو كانت ليست خليلية. قصيدة التفعيلة التي تخلّصت من عمودية الخليل بن أحمد الفراهيدي ظلت رغم ذلك أفقية، وفي «ذاكرة للنسيان» دعنا نلملم شعر محمود درويش الذي بعثره في النثر: 
- لا أحد يستمع إلى الرجاء المرفوع على الدخان: أريد خمس دقائق، لأتمكن من وضع هذا الفجر، أو حصّتي منه، على قدميه..
- لم أعد أتساءل متى يتوقف عواء البحر الفولاذي..
- أريد رائحة القهوة. لا أريد غير رائحة القهوة. ولا أريد من الأيام كلّها غير رائحة القهوة. رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدميّ، لأتحوّل من زاحف إلى كائن..
- كان الخبز يصعد من التراب. وكان الماء ينبجس من الصخر.
بعيداً عن لملمة الشعر من النثر تعالوا نقرأ ما كان محمود درويش يتوقعه من الكتّاب بعد موته، وتعليقاتهم الساخرة على رحيله. يكتب درويش أن أحدهم سيقول: كان يحب النساء، وكان يبذخ في اختيار الثياب، وكان سجّاد بيته يصل إلى الركبتين.
ويقول آخر عن درويش بعد موته: كان له قصرٌ على الساحل الفرنسي اللّازوردي، وفيلّا في إسبانيا، وحساب سرّي في زيوريخ.
ويقول آخر: كانت له طائرة سرية خاصة، وخمس سيارات فخمة في مرآب بيته في بيروت.
ويقول آخر: كان في بيته من أصداف البحر ما يكفي لبناء مخيم. كان يكذب على النساء. مات الشاعر، ومات شعره معه. ماذا يبقى منه؟ لقد انتهت مرحلته وانتهينا من خرافته. أخذ شعره معه ورحل. كان طويل الأنف واللسان.
هل كُتِبَ شيء من هذا القبيل عن درويش بعد رحيله؟ نعم كُتِبَ ولكن ليس في مثل تلك المُباشَرة والسخرية التي توقعها صاحب «أحبك أو لا أحبك» بعد موته. كانت هناك كتابات مبطنة بالحرير، وأخرى كانت مبطّنة بالخيش والليف الخشن، وعلى أي حال مثلما يمكن لملمة درويش من نثره، يمكن أيضاً لملمته ممّن مدحه وممّن رثاه وممّن تجاهله وممّن بكاه.. لعلّنا نرى درويشاً آخر غير محمود درويش.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"