د. محمد الصياد *
الدول النامية لم تكن تملك من القوة، كما الدول الأوروبية المتقدمة، لتقرر بمفردها فرض ضريبة على أرباح شركات التكنولوجيا العالمية التي تجني أرباحاً طائلة من أسواقها، وتتسبب في انكشاف موازينها التجارية وموازين مدفوعاتها، إلى الحد الذي باتت فيه بعض الدول النامية، بما فيها الدول التي يصنفها البنك الدولي في خانة الدول ذات الدخل المرتفع (المحظوظة بمداخيل سهلة تؤمنها سلعة هيدروكربونية أو معدنية)، كما فعلت على سبيل المثال فرنسا. حتى هذه لم تتجرأ على الوقوف في وجه التهديدات الأمريكية إذا تجرأت وفرضت ضريبة على شركاتها التكنولوجية العملاقة؛ مثل: «جوجل» و«أبل» و«أمازون».
لكن الدول النامية ستكون سعيدة بكل تأكيد إذا ما سمحت لها «الصفقة الضريبية» للدول السبع الكبرى بالحصول على الحق في إضافة مصدر جديد لإيرادات موازناتها المختلة؛ بفضل هذه الضريبة العالمية على أرباح شركات التكنولوجيا، إضافة إلى الرسوم التي ستتقرر لاحقاً على الخدمات الرقمية التي توفرها هذه الشركات في أسواق الدول النامية.
لكن، هل هذا ما سيحدث فعلاً؟ بموجب تلك الصفقة، فإن الشركات الكبرى في جميع أنحاء العالم التي تجني أرباحاً لا تقل عن 10% مطالبة بدفع ضريبة نسبتها 15% كحد أدنى على الأرباح، بغض النظر عن مكان مقرها الرئيسي.
وستتم جباية وتحصيل هذه الضريبة العالمية بواسطة مرفق عالمي مركزي قبل توزيعها بصورة «عادلة» على الدول ذات الصلة بعمليات وأرباح الشركات المدرجة، وترتيباً بحصة كل منها في الإيرادات الضريبية التي تتم جبايتها. والهدف هو إيقاف تنافس الملاذات الضريبية على جذب عمالقة التكنولوجيا؛ مثل «أمازون» و«فيسبوك».
ولما كان هدف معظم بلدان العالم، تقليل القيود الكمية (Quantitative Restrictions)؛ أي الضرائب الجمركية والرسوم الإدارية؛ وكذلك القيود غير الكمية، أمام تدفقات رؤوس الأموال الدولية وزيادة القدرة التنافسية للشركات المتعددة الجنسية، التي تتخذ من أراضيها مقراً رئيسياً لعملياتها؛ فقد كان الأصل في الممارسة لدى معظم دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة، هو عدم فرض مثل هذه الضرائب، باستثناء حفنة من الدول لا تكاد تُذكر.
والحال أن الدول التي اجتمعت في باريس، وعددها 139 دولة، تحت مظلة منتدى تديره منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، التي تمثل تجمعاً للدول الغنية، لم تتوصل إلى إجماع أو توافق حول الضريبة المعتزَمة. صحيح أن الدول النامية (ليس جميع الدول النامية) التي شاركت في الاجتماعات، متعطشة للإيرادات؛ ومنها الإيرادات الضريبية، خصوصاً المتأتية من ضريبة الشركات موضوع تلك المشاورات والمباحثات. إلا أنها شعرت بأن المقترحات التي طُرحت ونوقشت على الطاولة، كانت معقدة للغاية، وغير مرنة، وغير عادلة. والآن، وقد حسمت الدول الغنية الجزء الأهم من موضوع التفاوض؛ وهو الاتفاق على سقف الحد الأدنى للضريبة العالمية، فسوف تقوم بأخذ مباركة مجموعة العشرين عليه في اجتماع المجموعة الذي سيعقد في البندقية الشهر المقبل.
يكمن عدم تفاؤل الدول النامية بشأن صفقة الضريبة، وهي في الأصل مقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن، في أنها سوف تترك الدول النامية شبه معدومة الاستفادة من الجهود التي بذلتها على مدى السنوات الماضية عبر منصات الأمم المتحدة المختلفة من أجل ممارسة سلطة أكبر على الشركات متعددة الجنسيات وإخضاع شركات التكنولوجيا لنظام ضريبي عادل. ف«الصفقة» لن تفعل الكثير لمساعدة البلدان النامية التي هي في أمس الحاجة إلى المزيد من عائدات الضرائب؛ ذلك أنه بموجب الصفقة، سيتم فرض ضرائب على الأرباح التي تحققها 100 من أكبر الشركات في العالم، في البلدان التي يكون لها فيها وجود مادي ضئيل أو معدوم، ولكنها تجني من عملياتها في هذه البلدان، عائدات كبيرة. وباعتماد هذا الحد الأدنى للضريبة العالمية (15%)، يقول مهندسو الصفقة إن من شأنه وضع حد لما أطلق عليه «السباق نحو الحضيض»
(Race to bottom)، الذي تقوم بموجبه الشركات بتوجيه أرباحها صوب البلدان منخفضة الضرائب. وهذا بالضبط ينطبق على الدول النامية التي بالكاد يكون للشركات الكبرى العالمية وجود مادي فيها، وإن وُجد فهو رمزي. فمقار هذه الشركات هو في الدول المتقدمة التي ستحصل على الحصة العظمى من نسبة الضريبة العالمية المقتطَعة. أي أن الشركات ستدفع معظم ضرائبها لسلطات الدولة التي يوجد بها مقرها الرئيسي، حتى لو كانت أرباحها، وكذلك عمالتها والمواد الخام المستخدمة، مصدرها البلدان النامية. كما أن هذه الصفقة ستحرم المراكز المالية في الدول النامية من ميزتها الضريبية التنافسية.
* كاتب بحريني