عادي

بريجيته كروناور.. لغة مختلفة تراوغ الناقد

22:51 مساء
قراءة 3 دقائق

استطاعت الكاتبة الألمانية بريجيته كروناور (29 ديسمبر 1940– 22 يوليو 2019) منذ مطلع العقد الثالث من عمرها أن تحدث في الرواية والقصة والمقال تجديداً حقيقياً إبداعاً وتنظيراً، وأتاحت لها فطرة القوة التي فطرت عليها، خلقاً جديداً للغة الألمانية الحاضرة بكلماتها وتراكيبها ومنظومتها النحوية، وعمارة جديدة للبناء القصصي، وتأسيساً فكرياً وفنياً جديداً للعملية الإبداعية.

وفي صدر ترجمته لروايتها «السيدة ميلاني والسيدة مارتا والسيدة جرترود» يوضح المترجم د. مصطفى ماهر: «لم تشغلني ترجمة كتاب مثلما شغلني هذا الكتاب وصاحبته، فهو في حقيقة أمره كتاب صغير، لكنه أبعد ما يكون عن الكتب الصغيرة العادية، التي يمكن أن يفرغ الإنسان لها، فينقلها من لغتها إلى لغته، إنه كتاب مختلف، يراوغ الناقد، عارم، يستولي عليك بقوة الكلمة وقوة الفكرة، وقوة البناء، ويستفزك بتجديده العنيد المختلف، ويرهقك كما أرهق النقاد إرهاقاً ممتعاً».

ما كتبه النقاد بعد عام 2005 عن بريجيته كروناور يكاد يوحي بأنها بعد حصولها على جائزة «جورج بوشنر» المرموقة، قد اكتشفت أو على الأقل اكتشفت من جديد، وهذا الكلام صحيح وغير صحيح أيضا، صحيح في أنها ظلت منذ عام 1974 تكتب من دون تردد، وأنها نشرت مقالات وقصصاً وروايات، لكنها كانت منكبة في المقام الأول، تارة قبل الإبداع، وتارة في داخله أو بالتوازي معه، على التأسيس والتنظير لإحداث نقلة حاسمة من القديم إلى التجديد، لكي تقف على أرض ثابتة.

ولم تكن بريجيته تحمل وحدها أعباء النقلة الحاسمة من القديم إلى التجديد، فقد تعددت المحاولات منذ الستينيات، لا في مجال الأدب وحده، لكن في مجالات الفنون المختلفة والثقافة ككل، وبرزت في الساحة أسماء لا يجوز التغافل عنها، كانت ثمار التجديد على اختلاف توجهاتها بطبيعة تكوينها خارجة على المألوف، يحتاج استقبالها واستيعابها إلى جهد غير مألوف من النقاد والقراء والدارسين، وينطبق هذا بنوع خاص على بريجيته.

نشرت بريجيته منذ أواخر الستينات ومطلع السبعينات مقالات في مجلات أدبية عديدة، ثم أصدرت ثلاثة كتب تتكون في أغلبها مما يعرف باسم «النصوص الصغيرة» التي يمكن أن تكون مقالات تنظيرية أو فصولا تأملية أو إبداعات قصصية، الكتاب الأول هو «مسار الأشياء الحتمي» وفي العام التالي أصدرت كتابها الثاني «ثورة التقليد» ثم جاء الثالث وعنوانه «في التعامل مع الطبيعة» وبعد ثلاث سنوات، أي في عام 1980، توالت كتبها المختلفة.

في هذه الرواية نرى السيدة ميلاني والسيدة مارتا والسيدة جرترود، وهن ثلاث نساء لا يلفتن نظر أحدن لكنهن يكتسبن تحت نظرة «بريجيته كروناور» شكلاً مختلفاً، فهن ثلاث أرامل لا تعرف إحداهن الأخرى، فتستحضرهن الكاتبة وترسم حولهن دائرة، وتبني علاقات واستنتاجات فردية تقوم هي بتشييده، وتتغنى في إحدى قصصها بالجمال البكر الأسطوري في «لتساتسيرا» وهو مكان في إيطاليا لا يكاد الإنسان يصل إليه حتى يصبح فورا إنسانا لطيفا بالضرورة ولا يستطيع أن يتقنع خلف شره الذاتي.

تضيء طرائق سرد بريجيته بطل قصتها «نيس» فتخرجه من كهفه الحالك، فإذا حياته البائسة قد عرفت السعادة والبهجة حينا، وإذا المعقول ينهار بقيام الحرب العالمية الثانية، وتصاب حبيبته بالجنون وتنبذه، ويعجز الضوء عن تبديد هذا السواد، فتعيده بريجيته كروناور إلى كهفه الحالك مرة أخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"