عادي

الكتابة المشتركة.. النصّ الهجين

23:13 مساء
قراءة 4 دقائق
3
1803

الشارقة: يوسف أبولوز

هل انتهى زمن الكتابة المشتركة؟ وهل هي نصّ هجين، بل هناك من يطلق على هذا النوع من الكتابة «زيجات أدبية».. فهل هذه الزيجات متكاملة متكافئة أم أنها على طريقة الحب من طرف واحد؟ ثم، ما المشترك النفسي والثقافي والأدبي الذي يجمع بين كاتبين أو بين كاتب وكاتبة لينصهرا معاً في كتابة مشتركة تذوب فيها الفوارق وتنعدم تماماً رؤية أحدهما في معزل عن الآخر. إذ تصبح الكتابة في هذه الحالة هي شكل من أشكال الذوبان والتماهي والانصهار.

كتب عبد الرحمن منيف، وجبرا إبراهيم جبرا رواية مشتركة «عالم بلا خرائط»، ومع ذلك لم تكن الرواية علامة فارقة في نتاج كل منهما، بل هناك من يصنّفها على أنها رواية عادية، وأكثر من ذلك، يمكن في المختبر القرائي الاحترافي التأشير على مناطق كتابة جبرا، والتأشير، في المقابل، على مناطق كتابة منيف، وهذا ينطبق على تجربة قاسم حدّاد، وأمين صالح في كتابهما المشترك «الجواشن» الذي يمكن تفكيكه =إن جازت العبارة= إلى نصّ تجري فيه روح قاسم، ونصّ آخر تجري فيه روح صالح.

التجارب الروائية المشتركة كثيرة لكنها ليست ظاهرة أدبية بل هي أقرب إلى حالة مزاجية أدبية يلتقي فيها كاتبان عند نقطة مشتركة.. ملتقى طرق، لا مفترق طرق.

على أن الأهم هو نوع آخر من الكتابة المشتركة هو الموضوع الواحد الذي يكتب فيه أكثر من كاتب، مثل تجربة البتراء الأردنية التاريخية التي كتب عنها 12كاتباً عربياً وأجنبياً، كل منهم كتب بشكل مستقل عن الآخر غير أن الموضوع واحد، وهو المشترك وليست الكتابة المشتركة، غير أنها من زاوية ما كتابة مشتركة من حيث التقاء 12 نصّاً محورها واحد هو «البتراء».

12 كاتباً

يضم الكتاب نصوصاً منفصلة مستقلة يلظمها مكان تاريخي واحد هو البتراء، المدينة الحجرية الأسطورية هي مركز الكتابة ودائرتها الأدبية والجمالية. هنا كتابات «بتراوية» إن جازت العبارة لكل من: كلود أولييه، بن جلّون، ميشيل بوتور، جان - لوكليزيو، عبد الوهاب المؤدّب، آن مينكوفسكي، جمال أبو حمدان، أدونيس، جبرا جبرا، عبد السلام العجيلي، جمال الغيطاني، ونبيل نعّوم.

كتابة مشتركة عالمية بمرجعيات عربية وغربية في الوقت نفسه، فكل واحد من هؤلاء الكتّاب المرموقين والمعروفين يرى البتراء من زاويته الثقافية والأدبية والجمالية والقرائية. والمشترك هو المكان، ولكن هناك مشتركاً آخر هو مشترك عام، فهؤلاء الكتاب أل 12يجمع بينهم القاسمان المشتركان الأعظمان هما: الرواية والشعر، وهما أيضاً في الوقت نفسه العمودان الرئيسيان للأدب، بل العمودان الذهبيان اللذان تقوم عليهما اللغة، ولا أظن كاتباً مهما كانت مرجعياته وثقافته لا يتسلح تماماً باللغة وهو في حضرة مدينة أسطورية مُهابة مثل البتراء.

هذه الكتابة المشتركة والمستقلة في آن كان وراءها وزارة الشؤون الخارجية في فرنسا، ووزارة الآثار والسياحة في الأردن، فقد جرى التنسيق بين الوزارتين لدعوة اثني عشر كاتباً ستة منهم يكتبون بالعربية، وستة يكتبون بالفرنسية، وإذاً، هناك مشترك آخر ليس في الكتابات بل في اللغتين العربية والفرنسية اللتين تتماهيان هنا مع المكان، والمكان هو حجر وردي ملهم، أسطوري وتاريخي، وإنثروبولوجي، روائي، وشعري، وسردي.. وأنت تقع في هذه المشتركات المكانية واللغوية.

ترجم النصوص الفرنسية إلى العربية عيسى مخلوف، وكتب مقدمة الكتاب الذي جاء بعنوان «البتراء.. كلام الحجر» فيليب كاردينال، وكان آنذاك يرأس قسم الإعلام والعلاقات العامّة في معهد العالم العربي في باريس - في أوائل تسعينات القرن العشرين.

المكان واللغة

إن الخيط اللّاظم لهذه النصوص هو فكرة «الكتابة المشتركة»، ولكن ثانية، إنها كتابة مستقلة يشترك فيها المكان واللغة، فلا حاجة هنا أن نبحث عن شخصية كل كاتب في نص واحد ذابت فيه أحبار اثني عشر قلماً، بل هنا كل قلم له وفيه حبره الخاص.

ألهمت البتراء جان - لوكليزو قماشة أولية لرواية مستعارة من تاريخ وأمكنة المدينة الوردية، «.. مشيت في الوادي طول النهار. كنت أصعد السيق وأنزل. بحثاً عن آثار خفية في ضريح عائشة المسنّة. شممت رائحتها على الأرض حيث كانت تنام..قرب النار، متروكة لغضب العاصفة..»، ويكتب جمال أبو حمدان ما يشبه الصوفيّ بين اليقظة والحلم.. «.. ما عدت قادراً على تذكّر ما نسيت، ولا قادراً على نسيان ما أذكر، أنا الذي عبرت برزخاً ضيّقاً ومعتماً ما بين ولادتي الأولى، وموتي الأخير».

رعشة البرودة

مرة ثانية يحضر السيق في نصّ مينكوفسكي:.. «سارت قدماً في وادي السيق، حتى بَلَغَتْ ذلك المكان الذي لا يبلغه ضوء النهار، يتعالى جانبا الوادي في الصخر، ويتلامسان تقريباً. دبّت فيها رعشة البرودة، ولفّت عليها أطراف دثارها الصوفي الفضفاض الذي تلقيه على كتفيها..»، أما جبرا فيمهّد للكتابة عن البتراء بما تثيره الأماكن القديمة في نفسه.. ويقول:.. «.. تزداد الإثارة عندما أتأمل الخرائب وأشاهد حطام الأعمدة والتماثيل، وأحاول فهم بقايا الأضرحة والهياكل التي تبدو مغلقة على أسرارها..»، أما بن جلّون.. «.. فما إن وصل إلى البتراء حتى بدأ يسير وحيداً، بلا دليل، يتنشق الغبار، ويستسلم لأحلام وهواجس غريبة..».

الجبال الوردية الموحية بالمخلوقات الخرافية والحقيقية هي الصورة المادية المجرّدة في كتابة نبيل نعوم، لكنه يعود إلى حقيقة الاسم «البتراء».. «.. قد يكون الاسم من بترا بالإغريقية، ومعناه، الصخر، وقد نحتت المدينة فيه أو في العربية، من البتر، بدلالة القطع واستئصال زائد الحجر أو لأنها بُتَرَت عن العالم الخارجي، فَحُمِيَتْ أو لأن الآتي إليها مبتور عن كل تاريخه السابق..».

نصوص أخرى تُراوح بين السرد، و«الشعرية» والقصّ «المستعار» من الحجر تلتقي كلّها على مشتركها المكاني: البتراء. وإذا كان من كتابة مشتركة هنا فإن الاثني عشر كاتباً كتبوا معاً «كلام الحجر». لقد أنطقوا الحجر بكلام مثل لونه.. وردي، وأيضاً يصغي، وينقطع في مكانه. أو أنه مبتور في مكانه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"