عادي

الصمت رأس الفضائل

22:47 مساء
قراءة 5 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

أصبح العالم أكثر ضجيجاً، بما شهده من متغيرات كبيرة، فخلال العقود القليلة الماضية تقلصت مساحات الأرياف وتحولت القرى إلى مدن ينتشر في مقاهيها وطرقاتها وشوارعها الصخب الناتج عن الاكتظاظ السكاني وأبواق السيارات ومكبرات الصوت في المحال التجارية وهدير الماكينات والحشود والاحتفالات، لقد صار الزعيق سمة من سمات هذا العصر، حيث بدأ الضجيج يحرك قواته ليحاصر البشر في كل مكان، وفي ظل تلك الأجواء يغيب الصمت الضروري واللازم للإبداع الذي يحتاج إلى السكون والهدوء، كثير من الكتاب صاروا يهربون من المدينة بحثاً عن ملاذات آمنة وصامتة يحاورون فيها أنفسهم من أجل السكينة والسلام الداخلي، ويبحثون عن الأفكار والإلهام من أجل فعل الكتابة، فالمدينة ما عادت تمنحهم فضيلة الصمت ولو للحظة واحدة، وربما ذلك ما دعا الكثير من الكتاب والفلاسفة والمفكرين إلى التفكير في أن العالم بدأ يتراجع رغم التطور الكبير، فزمن العولمة وثقافة الاستهلاك جعلت الإنسان أكثر اغتراباً عن جوهره الإنساني وأكثر تيهاً وتشظياً وضياعاً، وربما ذلك ما عناه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين حول أننا نستبعد الآن الحياة البشرية العارية، فتلك الأطروحة تحمل في وجه من وجوهها المتعددة مرثية حزينة لأزمنة الهدوء والطبيعة الإنسانية، وهجائية ضد روح العصر الصاخب المتقلب والمتلون، لقد أصبح الصخب هاجس الكتاب والمبدعين في كل المجالات، وصارت العودة إلى حياة الطبيعة في ما قبل وقتنا الحالي هدفا لكتاب كثر، وأصبحت كلمات ومفردات مثل: الهدوء، الصمت، الوحدة، وحياة العزلة، تردد وسط الكثيرين وتشير إلى الحاجة إلى السكينة.

ميلاد

وأمام ذلك المناخ المتعكر والملوث بفعل الصخب، صار البعض يتتبع لحظة اندلاع الضجيج، تتبعاً زمنياً وتاريخياً، فالشيء الذي لا شك فيه أن الزعيق كان حاضراً على الدوام بصور وأشكال مختلفة عما هو سائد اليوم في عصر الماكينات والتقنيات، وذهب الكثير منهم إلى أن مرحلة الأصوات العالية بدأت تجتاح البشرية بالتزامن مع ميلاد الثورة الصناعية، التي شكلت بيئة وحاضنة ترعرع فيها الصخب، عندما استبدلت البشرية العمل اليدوي بالماكينة، فيما عرف ب«المكننة»، فقد شهدت أوروبا خلال القرن الثامن عشر نهضة علمية برافعة التجارب والاختراعات والاكتشافات، الأمر الذي قاد إلى الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، والتي كان لها الأثر الكبير على الحيوات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أوروبا وأنحاء أخرى كثيرة، فقد أصيب كل العالم بعدوى الضجيج، ليصبح موضوعاً للأدب حيث صدرت الكثير من القصائد والأعمال السردية في ذلك الاتجاه الذي ينعي الصمت على نحو ما فعل «دان ماكنزي»، الذي ألف حكاية شهيرة حملت عنوان «مدينة الضجيج»، في عام 1916، والتي أشار فيها إلى أن الطبيعة ظلت تتسم بالهدوء الجميل وتنعم بالصمت الملهم إلى أن غزتها جيوش الحضارة الحديثة بكل أسلحة الصخب الشامل، فانفتح العالم على حقبة جديدة محتشدة بالصراخ.

حكاية الصوت

غير أن بعض المفكرين والكتاب أكدوا أن الصخب ظل حاضراً حتى ما قبل الثورة الصناعية، فالكاتب البريطاني ديفيد هندي، يذهب في كتابه «الضجيج.. تاريخ إنساني للصوت والإصغاء» إلى أن الصوت البشري المرتفع ضارب في القدم، يشمل جلبة الجماهير في روما القديمة والصراع على السلطة بين الأغنياء والفقراء في العصور الوسطى، وضغوط عصر التصنيع، وصدمة الحرب، وظهور المدن، وثرثرة وسائل الإعلام المتواصلة على مدار الساعات الأربع والعشرين، ويقول في الكتاب: «ولد الضجيج قبل الثورة الصناعية، حيث إن روما، وهي المدينة الأكبر في العالم في زمانها، والمعتدة بنفسها في ذروة قوتها وغناها بسكانها الذين بلغوا المليون نسمة، والتي كان يأتيها المهاجرون والتُجَّار والعبيد من جميع المناطق في حوض البحر الأبيض المتوسط وما وراءه لأسباب اقتصادية، كانت الأعلى صخبا بكلِّ المقاييس، الأمر الذي كان مصدرًا للإزعاج، وأدى إلى نمط حياة يومية تتصف بالتوتر والنوم المتقطع»، ويشير هندي إلى أن أحد الكتاب أحسن تصوير الحياة في ظل القلق والصخب في روما القديمة عندما قال: «كثير من المُعتلين صحيًا يموتون هنا بسبب الأرق، ثمة حركة لا تنتهي في الشوارع الضيقة الملتوية».

لا شك أن الكتاب في شتى المجالات، والأدب بصورة خاصة، بحاجة إلى لحظات الهدوء، فالإزعاج يقتل في نفس المبدع روح الاكتشاف والرصد والالتقاط وغيرها من الأشياء التي يتوصل إليها عبر الإصغاء، فالمبدع يسمع ويرى ويشاهد ويعقد علاقات عبر عملية الإصغاء إلى الأشياء، وربما ذلك ما عناه الشاعر محمد مفتاح الفيتوري عندما قال في نص شهير: «غيري أعمى مهما (أصغى)، لن يبصرني»، وذلك عينه ما أشارت إليه الكاتبة الأمريكية «سوزان كين»، التي تخصصت في قضية «قوة الصمت»، ففي كتابها الشهير «الهدوء: قوة الانطوائيين في عالم لا يمكنه التوقف عن الحديث»، أشارت إلى ضرورة أن يعم نوع من الصمت في ظل الصخب الذي يعيشه العالم الذي وصفته بالمجنون، وتقول في إحدى منعطفات الكتاب: «كن يا سيدي صامتاً؛ فالصامتون هم خير من في هذه الأرض، هم من يصنعون التغيير ويُضيفون كثيراً في عصر الثرثرة»، فمن الواضح أن الصخب يعمي الكاتب عن الكثير من الأشياء، فهو يحرم من الاستماع إلى الآخر، وبما يقود ذلك إلى غياب العقل، ليسود منطق الصوت العالي، تبرز الحاجة إلى فسحة من السكينة، وذلك ما لفت إليه الكاتب النرويجي «أرلنغ كاغا»، في مؤلفه «الصمت في عصر الضوضاء»، وهو تجربة للمؤلف في الابتعاد عن المدينة عندما شد رحاله إلى القطب المتجمد، وفي الكتاب يتحدث «كاغا»، عن قوة السكون وأهمية الانعزال عن العالم في بعض الأحيان، فذلك الأمر يفجر في المرء المعارف ويضعه أمام الحقائق، ويقول:«لقد نسينا كيفية التعامل مع الصمت. نشعر بالقلق والتوتر إذا لم يحدث شيء. ثم نحمل الهاتف المحمول، ونتحقق من الأخبار من وسائل الإعلام الاجتماعية، والبحث في جوجل عن أي شيء. نحن في طريقنا إلى الجنون».

قوانين

ويرى كثيرون أن الصخب ينتج إبداعاً سيئاً، حيث يسود الصوت العالي وقوانينه، وهو أمر مناقض للإبداع، فالكل يريد أن يحكي، وتلك الثرثرة تتحول شيئاً فشيئاً إلى أدب على النحو الذي نراه في مواقع التواصل الاجتماعي، فالكثير من تلك الكتابات هي في طبيعتها صخب وضجيج يحمل تشوهات على مستوى اللغة والأدوات الإبداعية تعبر عن رؤى غير ناضجة ونظرة للأشياء غير واعية، ولا تحفل بالجمال، فالفن العميق والأدب الراسخ يحتاجان بالفعل إلى الهدوء والصمت والصبر.

ويرى بعض الكتاب والمبدعين، في مفارقة مدهشة وعجيبة، أن الصخب يأتي ضمن طقوسهم في ممارسة فعل الكتابة!، وذلك أمر غريب، لكن ربما هو نوع من التناغم بين الصخب الداخلي الكامن في الإنسان، وبين ذلك الذي يجري في الخارج، فالكتابة في الأصل هي تعبير عن ضجيج فكرة ما قابعة داخل ذات المبدع راودت الكاتب عن نفسها، فالصخب عند هؤلاء ليس مثيراً للقلق ويدفعون بأن الموسيقى والكلام والترانيم والأجراس والقهقهة كلها أشكال وأنماط للضجيج، بل ويرى البعض أن السرد والرواية على وجه الخصوص، تعيش اليوم في أوج مراحل تطورها، لأنها نجحت في التعبير عن العصر الراهن بكل تشظّيه وقسوته وصخبه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"