عادي

الهدوء.. رئة الكتابة

22:41 مساء
قراءة 6 دقائق
1701

استطلاع: نجاة الفارس

الوحدة.. الهدوء... العزلة، مفردات يرددها المبدع دائماً وهو يتحدث عن الشرط الحياتي الرئيسي الذي يسمح له بالكتابة، الآن هل تسمح مواقع التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة بذلك، تلك الأدوات التي تخترق صحونا ونومنا؟، يوضح عدد من الكتاب أن مواقع التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين يحتمل الصواب والخطأ، فالانغماس التام فيما يطرح فيها يؤثر سلباً في الكاتب ويسهم في خلق فوضى قيمية فنية ومعيارية في عالم الإبداع، فلابد من عملية تنظيم وذكاء في استخدامها حتى لا تصبح التكنولوجيا عاملاً مشتتاً، وسبباً في ضياع جهد الكاتب ووقته وهدر طاقته، فالتواصل المستمر يمنع القدرة على التفكير والتجديد ويضع الكاتب في دوامة مستمرة ومشتتة وعشوائية.

وأكدوا لـ «الخليج» أنه من الضروري أن يجد الإنسان، خاصة الأديب، مساحة زمنية لاستغلال إمكانياته الذاتية للإبداع، عن طريق التأمل بعيداً عن الضجيج الذي يغص بالمتاعب المدمرة للصحة النفسية، والتي تقف حاجزاً بين الأديب واستكشاف النفس التي تمثل كونه الصغير ومنبع إبداعه.

الشاعر ناصر البكر الزعابي، يقول: لم تقترن الكتابة بالهدوء والوحدة والعزلة في بعض الأحيان، بل هناك مشاريع أدبية ولدت في قلب الصخب وفي خضم الظروف القاسية وفي اختلاط كبير مع مختلف فئات المجتمع، إلا أن الهدوء الذاتي هو ما يفتقده الكاتب في عصرنا الراهن بسبب مشاغل الحياة وارتباطاته الأسرية والمهنية وظروفه الصحية والمادية على حد سواء، حيث يبحث عن السكينة والطمأنينة والاستقرار أولاً ليصل إلى الفكرة والمضمون بسلاسة ويسر، فكم من الأعمال الأدبية التي ظهرت في حقبة الحروب والمرض والتحولات الهائلة، مثلما قرأنا عن أدب الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، حيث عبّرت تلك الأعمال عن حدث تاريخي كبير عكس الأعمال التي تناولت هذه الحقبة في زمن لاحق متأثرة بعوامل أخرى، لذلك فإن مفهوم العزلة بحد ذاته يحتاج إلى تصنيف وتعريف مستقل فلا يمكن أن يعيش الكاتب في انعزال تام غير آبه بالظروف المحيطة به، بل هو انعكاس طبيعي للفترة الزمنية التي يعيشها وتصوير حي للمشاعر الإنسانية.

يضيف الزعابي: بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي فهي سلاح ذو حدين، فالانغماس التام فيما يطرح فيها يؤثر سلباً في الكاتب وتنقلب المعادلة بحيث تصبح الكتابة مجرد ردود أفعال لما يطرحه الآخرون، وفي رأيي أن الكاتب الخلاّق هو الذي يصنع الحدث الأدبي ويشكل مزيجاً من الواقع والخيال في قالب رصين، وحين ينقاد الكاتب لهذه المواقع طوال يومه فمن المؤكد أنه سوف يتأثر سلباً، وعليه خلق توازن عقلاني بين الطرح المعلوماتي اليومي الذي يستقيه من هذه المواقع، ومصادر المعرفة الأساسية التي أراها الأهم والأعمق، مثل الكتب والمراجع والتأمل والمشاهدات والترحال والاحتكاك بالبشر بمختلف أعمارهم، ليصل إلى فكرته الأساسية فالتقليد الأعمى لكل ما ينشر في هذه المواقع صباح مساء عبارة عن اجترار وتكرار لا طائل منه.

مقارنة

الشاعر والروائي أنور الخطيب، يقول: يحلو للبعض نعت الماضي بالزمن الجميل رغم أنه ليس كذلك دائماً إنما هو نسبي، وينطبق الأمر ذاته على السؤال المطروح هنا، فالانطباع العام المأخوذ عن المبدع أنه يفضل الأماكن الهادئة والجميلة كشرط للاندماج في الكتابة، وهو أمر نسبي أيضاً، أنا أعرف كتاباً يكتبون وسط الضجبج وفي المقاهي، وبعض الشعراء يكتبون في السيارة، والآن يكتبون مباشرة على الفيسبوك وتويتر، وإذا كانت هذه الوسائل وغيرها تعوق عملية الكتابة، فبمقدور الكاتب عزل نفسه عنها بالضغط على زر واحد فقط، لكن ما لا يستطيع تجنبه هو ضجيج من نوع آخر يتمثل في قلق الحياة اليومية وسرعة إيقاعها، وهو ضجيج أثّر في محاور الكتابة وأغراضها وأشكالها، فاستجد ما يعرف بالقصة القصيرة جداً والنوفيلا أو الرواية القصيرة وقصيدة النثر التي كسرت إيقاع بحور الخليل لاختلاف نمط الحياة وتوترها وتعقيدها، بل ساهمت التغييرات في إيقاع الحياة واختلاف البيئة وهياكل الأمكنة والهندسة المعمارية الحديثة بالتأثيرفي تقنيات الكتابة ذاتها، وبات التكثيف شرطاً فنيّاً جمالياً للنص.

ويتابع الخطيب: يمكننا إغلاق الانترنت وإبعاد الهواتف المتحركة عنا لكننا نعجز عن إغلاق الأبواب عن القلق الذي يسببه الحديث في الصراعات السياسية والتنافس الاقتصادي والتعقيدات المعيشية والعاطفية والحديث في ثقب الأوزون والتغيّر المناخي والحروب والأوبئة والإرهاب والتطرف، صحيح أن هذه الموضوعات أضحت محاور للكتابة لكنها تسبب قلقاً مصيرياً للمبدع كونه الأشد حساسية، وبشكل عام، تأثُّر الكاتب بدأ منذ الثورة الصناعية التي تنمّرت على الطبيعة وهدوئها وشاعرها، والآن جاء وحش اسمه وسائل التواصل الاجتماعي ليسهم في خلق فوضى قيمية فنية ومعيارية في عالم الإبداع.

عملية تنظيم

القاصة والروائية فاطمة سلطان المزروعي، تقول: الأديب دوماً في عزلة، وفي تأمل، ولا أقصد أنه ينقطع عن الناس ويبتعد عنهم، لكن لحظات الوحدة والجلوس مع النفس في مكتبته طقوس لا فكاك منها أو عنها، كل من يتوجه نحو الكتابة والتأليف، يعلم أن هذه الحالة مهمة لأنها تصفي الذهن وتوضح الرؤية أمامه، من دون التأمل والقراءة، لا يمكن للعقل أن ينتج أعمالاً ولا أن يضع أفكاراً جديدة ملهمة ومبتكرة، وهذه الحالة ليست منوطة بظروف مثل هذه التي نعيشها، بل هي عامة، نحن نحتاجها بين وقت وآخر؛ لكن الحجر المنزلي، والتباعد الاجتماعي، سمحت لنا كمثقفين وكتاب ومؤلفين بأن يكون هذا الطقس دائماً أو شبه دائم، فالهدوء والعزلة وغيرها من مفردات الكاتب التي يتنفسها، ولولاها لما استطاع أن ينجز ويبدع ويكتب وينشر، فالعزلة لدى الكاتب اختيارية، وهي عامل محفز تساعده على الكتابة والتركيز والإبداع والإنتاجية، فالكاتب يحتاجها حتى يستطيع ترتيب أفكاره وتجديدها، وخلال الفترة الماضية مابعد أزمة كورونا خضع العالم بأكمله لعزلة حقيقية وابتعد الكثيرون عن ممارسة حياتهم العادية والتزاماتهم ولكن تلك العزلة برغم صعوبتها ساهمت في زيادة انتاجه وحفزته على الكتابة، فالعزلة تتيح التفكير وإمعان النظر والإبداع.

وتوضح المزروعي: لا يمكن إنكار أهمية وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة، ومدى مساهمتها في نشر الإبداع وتكوين صداقات افتراضية ومشاركتهم الأفكار والأعمال والمناقشة، ولكن تلك التكنولوجيا أحيانا تقف أمام راحتنا وتثير قلقنا وربما تشغلنا وتحبسنا في عالمها، بل وتعزز الشعور بالذاتية، وأحياناً تثير قلقنا وتشغلنا عن أهدافنا الحقيقية في الكتابة وتجعلنا في دوامة الرد على أسئلة كثيرة لا معنى لإجاباتها، فالكاتب يحتاج إلى هذا العالم الافتراضي كونه مهماً جداً في التواصل مع الآخر، ونشر إبداعه، ولكن لابد من عملية تنظيم وذكاء في استخدامها حتى لا تصبح التكنولوجيا عاملاً مشتتاً وسبباً في ضياع جهده ووقته وهدر طاقته وعدم الاستفادة منه، فالتواصل المستمر يمنع القدرة على التفكير والتجديد ويجعل الكاتب في دوامة مستمرة ومشتتة وعشوائية.

ميول فطرية

الشاعرة غالية حافظ، تقول: العزلة عنصر أساسي لإشباع دوافعنا نحو التفرد والاستقلال وتحقيق الذات، وفي طبيعة الأديب ميول فطرية إلى العزلة وحب الخلوة، فمن ضمن فلسفة الإبداع الجمعية الاعتكاف الفني والانزواء الإبداعي وخاصة عندما يغدو الأديب معتزلاً الضجيج المجتمعي، منسجماً مع ذاته في عالم خاص اختاره لنفسه، ومن تجارب العزلة الأدبية المتفردة تجربة الشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعري رهين المحبسين الذي تفرغ لأكثر من خمسين عاماً لنظم لزومايته وتأليف كتبه الكبرى.

وتلفت إلى إن العزلة الأدبية رحلة معرفية نفسية بامتياز تنظّم فيها نفس الأديب ما يعتري المجتمع من تناقضات فكرية وثقافية وفلسفية، فكلما تبحرّت الذات في جوهر الحقائق والأفكار تلاشت هذه التناقضات، وتحولت إلى مادة غنية بفعل الصفاء الذهني الذي يتأتى للأديب بفعل العزلة الأدبية والفنية، ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك من خلال القول إن العزلة شريك فنيّ يحمل أبعاداً إبداعية جمّة.

وتشير حافظ إلى العلاقات الاجتماعية الفاعلة للأديب، فعلى الرغم من أهمية هذه العلاقات هناك دور جوهري للعودة إلى الذات وإعلاء قيمة العزلة وتعلم كيفية إتقان فن البقاء وحيداً لخوض تجربة ذاتية مفعمة بالصفاء والمعرفة والإبداع والتحفيز على تحول الذات والانسجام الداخلي والابتعاد عن قبضة الانصياع المتأثر بالعوامل الخارجية، أما عن العزلة في زمن مواقع التواصل الاجتماعي فيصح القول إنه أصبح من الصعب تحقيق العزلة، فالإنسان في هذا الزمن لا يمارس العزلة تماماً حتى ولو كان وحيداً جسدياً فإننا نراه بشكل شبه دائم مصاحباً لأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية ولذلك تزداد صعوبة التفرد والعزلة، ومن الضروري أن يجد الإنسان وخاصة الأديب مساحة زمنية مناسبة لاستغلال إمكانياته الذاتية للإبداع، عن طريق التأمل الذاتي والاستكشاف الداخلي بعيداً عن الضجيج المحيط، الذي يغص بالمتاعب والصعوبات المدمرة للصحة النفسية والتي تقف حاجزاً بين الأديب واستكشاف النفس الباطنة التي تمثل كونه الصغير ومنبع إبداعه.

أركان وأسس

الشاعر الدكتور محمد فياض، يقول: الكتابة موهبة ربانية، إنها موهبةٌ كالجمال، كلون البشرة، لم تأت يوماً بالكسب، الوحدة والعزلة والهدوء من أركان الكتابة، ومن شروطها، بل من نوافلها كذلك، وقد يتوّهم شخص أنه كاتب؛ لكن الحقيقة غير ذلك؛ وقد يُعطَى شخص موهبة الكتابة، لكنه لا يسعى في تنميتها وتطويرها.

نعم؛ لا بد للكاتب من عزلة وهدوء، ومع غزو وسائل التواصل عالمنا طوعاً وكرهاً؛ فإنه قد أمسى لزاماً على الكاتب أن يكون بينه وبينها عهد قطيعة لا ينقض؛ فعليه أن يتحكم في تلك الوسائل، فهي تعكّر وتشوّش وتضيّع الوقت. حين أشرع في كتابة ما؛ فإن (جوّالي) يتحول إلى مهمة اتصالٍ تقليدي فحسب، وكثيراً ما أغلق الجهاز كليّاً حين الكتابة، فيما يحتاج إلى تدبّر وتمحيص، لأن الكتابة بالنسبة للمبدع الحقِّ كأنفاسه؛ فهو مضطَر إليهما معاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"