تداعيات من حبر وورق

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

من وقت إلى آخر أعود إلى أرشيفي الورقي «الجرائدي»: جريدة «اليوم» في الدمّام، جريدة «الجزيرة» في الرياض، مجلة «اليمامة»، جريدة «الأخبار» (كانت تصدر في وادي صقرة في العاصمة الأردنية عمّان)، جريدة «الشعب»، جريدة «الدستور»، جريدة «الرأي»، جريدة «الخليج» في أواسط ثمانينات القرن العشرين.
 جرائد جرائد. كأن الحياة كانت وما زالت مصنوعة من الورق. ورق بلون الحنطة، وله رائحة شجر عتيق. ورق جريدة اخترع له المخرجون ثمانية أعمدة.
كانت الصحف في السبعينات والثمانينات تشبه آباءنا وأجدادنا. صحف كريمة. صحف من ثمانية أعمدة، وإذا نشرت قصيدة أو قصة أو مقالة تأخذ مكافأة. لم نكن آنذاك نصدّق أن الجريدة تنشر لك وتدفع نقوداً لأنها نشرت لك. تلك المكافآت التي كنا نحصل عليها في بداية حياتنا ونحن ما زلنا على مقاعد الدراسة كانت أجمل المكافآت. نقود برائحة الحبر والورق، واليوم بعدما صارت حياة بعض الكتّاب ليست سوى حبر وورق، ها نحن نعيش، نحن وأبناؤنا من خير الجريدة. نعيش من خير الحبر، وخير الورق، وما أنبله من رزق.
كاتب هذه السطور «حَبّار» و«ورّاق» منذ أوّل مقالة ظهرت له في صحيفة أردنية في عام 1977، حيث زمن دار المعلمين في منطقة ناعور غربيّ عمّان.
تخرّج في دار المعلمين: إبراهيم نصر الله، ويوسف عبد العزيز، ومحمد الظاهر، وجمال ناجي، وغسان زقطان، ودرس فيها بعض الوقت محمد طملية الذي أصبح ناراً على علم أو علماً في رأسه نار في مجال الكتابة الساخرة مباشرة، وكان هذا النوع من الكتابة جديداً ومباغتاً للشخصية الأردنية في أوائل ثمانينات القرن العشرين. كان من الصعب على رئيس تحرير أن يغامر بفسح زاوية يومية أو أسبوعية لكاتب ساخر في مجتمع معروف عنه الجدّية المبالغ فيها، لكن اليوم انظر كم كاتباً ساخراً في الأردن؟ بعضهم ما زال أميناً إلى مرجعيته «الطملية».
مرة ثانية: الورق. عليك بالورق. والورق يأتي بالورق كما يقولون. والمقصود بالورق الثاني هو المال، فكم من الصحفيين والكتّاب الذين حوّلوا الكتابة إلى ارتزاق، وبالتالي أصبحوا مرتزقة. كم من هؤلاء امتلأت جيوبهم بالورق. الورق الثاني الملوّن، وليس ورق الجريدة.
عملت «حبّاراً» و«ورّاقاً» في أكثر من جريدة، ولم تمتلئ جيوبي بالورق. بقيت خفيفاً ونائياً تماماً في الكتابة. كل إطلالة عمود يومي هي إشارة على أن المرء بخير. يكفي تماماً هذا الامتياز الربّاني الجميل. أن تكتب يعني أنك بخير.
أسال الحبّار الكثير من الحبر الأسود على الورق. يكتب الحبّار بقلم «الباركر» الكلاسيكي القديم أو «الشيفر» القديم أيضاً على ورق الجريدة البسيط والنبيل. كيف يمكن لورقة أن تكون نبيلة؟ يحدث ذلك عندما تمتلئ الورقة بك. حين تمتلئ ببوحك، وأشواقك ودموعك.
يلتقي الحبّار بالورّاق، وتنعقد بينهما صلة قربى تعود إلى الجدّ الحبري الأول، كما تعود إلى الجدّ الورقي الأول.
أول من صنع الحبر والورق هم الصينيّون، لكن بعض كتابات التراث البحري تقول إن نوعاً من السمك يعيش في مياه الخليج العربي اسمه «الحبّار» كان البحّارة القدامى يصنعون منه مادة حبرية سوداء للكتابة. أما الورق فهو ابن الشجرة أو ابن الغابة.
الورق هو المخطوط وهو الوثيقة وهو العقد وهو الصحيفة، وهو الخريطة، وهو الكتاب. والمؤلف الذي يضع كتاباً إنما يبني مدينة من الورق. مدينة عصيّة على النار. ولا يحرقها نيرون.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"