شائعات وخرافات الأوبئة

00:20 صباحا
قراءة دقيقتين

بعض المفاهيم الراسخة في تاريخ العلوم الإنسانية بحاجة إلى تأمل، فمن المسلمات شبه الراسخة التي تطالعنا في هذه العلوم، أن كل مرحلة حضارية يمر بها الإنسان لابد أن يصاحبها تغير كامل في المفاهيم والتصورات ورؤى العالم، حدث هذا في الثورتين الزراعية والصناعية، ولكن هل ينطبق القانون نفسه على الثورة التكنولوجية؟ التي كانت بمثابة المحصلة النهائية للثورة العلمية التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر. 
لقد كانت وعود الثورة التكنولوجية بلا حدود، وهي كذلك بالفعل، إذا نظرنا إلى منتجاتها التي نستخدمها يومياً، ولكن واقع الحال في ما يتعلق ببنية ذهنية جديدة ومختلفة رافقت تلك المنتجات، يحتاج إلى مراجعة.
في عام 1665 اجتاح وباء الطاعون إنجلترا، وأدى إلى وفاة نحو 100 ألف من السكان، واتبعت السلطات الصحية آنذاك، جميع الإجراءات اللازمة لحماية السكان: الإخطار عن المرض، تعقيم المنازل، تنظيف الشوارع، عزل الأماكن الموبوءة.. ولكن الملاحظ خلال هذا الوباء هو تلك الصور المعبرة التي رسمها الأديب الإنجليزي دانييل ديفو في كتابه «يوميات عام الطاعون»، ويرصد من خلالها سلوكيات البشر خلال الوباء وتصورهم لأسبابه وكيفية تعاملهم معه، حيث انتشرت الشائعات والخرافات بشكل غير مسبوق، وشاهد كثيرون الأشباح تتحرك في الشوارع، ورأى آخرون معارك في السماء وسفناً تسير على الأرض وجيوشاً تحتل المدينة، وفي فترة قصيرة صدرت كتب تبحث في جذور الوباء وتربطه بسنوات من القحط والمجاعات مقبلة، وأقبل الناس على الفلكيين لقراءة أحوال الأبراج، وامتلأت أحياء لندن المركزية ببيوت يقطنها الدجالون الذين يصفون أنواعاً معينة لعلاج المرض، ويدّعون قدرتهم على الشفاء.
نحن هنا نتحدث عن عصر التنوير، فعندما نتناول القرن السابع عشر في أوروبا سنجد أمامنا حزمة من العلماء والفلاسفة والكتّاب الذين أسسوا لمعظم الأفكار التي تقطف القارة العجوز ثمارها الآن. وبعد أكثر من 350 عاماً نستطيع أن نلمح بعض ملامح الصورة السابقة خلال جائحة «كورونا»، فالشائعات على الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل تطالعنا يومياً، وهناك آراء تقترب من الخرافات والهلوسة، وبعض الأصوات الزاعقة لا تختلف في ما تطرحه عن قراء الطالع.
هل يعود السبب إلى أن هناك جزءاً خفياً في لا وعي البشر لم يتخلص بعد من الخرافة؟ هل يفرض الخوف علينا منطقه في مثل هذه الأحداث فنتجه لا إرادياً إلى اللامعقول؟ هل هناك أزمة في الثقافة العلمية التي لا تزال معزولة عن معظمنا حتى الآن؟ هل توجد مشكلة بنيوية في طبيعة النخب نفسها تجعلها عاجزة عن نشر الأفكار الحقيقية والتأثير في البشر؟ ولماذا يميل جزء من هذه النخب إلى تجاهل أبسط معطيات العلم، ويتعامل مع هذه الأزمات من منطلق أيديولوجي؟
أسئلة كثيرة تفرض نفسها خلال «كورونا»، ولكن المفارقة الأهم تتمثل في ذلك الإنسان البسيط الذي يجلس طوال اليوم أمام شاشة حاسب أو يحمل أحدث هاتف نقال ولا يستمع إلا إلى الشائعات ولا تملأ ذهنه إلا الخرافات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"