لا مكان إلا للحوار في لبنان

00:39 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

بعيداً عن التيارين الأساسيين، بل التيّارات التي تتصدّر واجهات الصراع السياسي، اليوم وأمس، والمتكرّرة في تاريخ لبنان المعاصر، ألحّ رئيس الحكومة السابق الدكتور سليم الحص (وقد لامس ال91 أطال الله عمره)، مطالباً بصوت خافت، وكلمات نظيفة قليلة منتقاة، وتوصيات سكنت حبري كما الوشوشة المقدّسة، داعياً من فراشه إلى يقظة عارمة هي أكثر من ضرورية اليوم، مذكّراً بروح «منبر الوحدة الوطنية»، وفلسفته التي لطالما أرساها وأرسينا من حوله برامجها الأساسيّة وأنشطتها معه بمبادرات وأفكار توفيقية تحت مسمّى «القوة الثالثة» سبيلاً وحيداً لتقريب المسافات المُصطنعة بين الأفرقاء سبيلاً لخلاص لبنان في الأمس، واليوم، وكلّ يوم.
 «لا مكان إلاّ للحوار والتواضع والحكمة بالنظر إلى المناصب والسلطات. فناء لبنان الحزين مقيم معي على أبواب هذه الفانية»، قالها موشوشاً. «جدّدوا القناعات والمواقف والمبادئ وادعموا المبادرات الوفاقية وتابعوها لإخراج لبنان من الأزمات المتلاحقة». كلامّ مقدّس، خصوصاً عندما تُصمّ الآذان، وتُنصب التحديّات إلى القبب، وتُحجم الأيادي عن توقيع الاتفاقات التي تكفل نِعَمِ السلام والوئام والتفاهم. وعليه: خلال ال2007، نشط أعضاء «منبر الوحدة»، برئاسة الحص، بين الرئاسات الثلاث ورموز القوى السياسية، عارضين مبادرات تُبعد اللبنانيين عن الحرب الأهلية التي راحت تلوح في التصريحات والمواقف معلنة اشتداد الأزمة. كان هذا في ظلّ استكمال قوى المعارضة تحرّكاتها لإسقاط رئيس الحكومة عبر العصيان المدني الذي عارضه المنبر باعتبار أنّ الأوضاع لا تُحلّ بالعنف الذي يُورث تبعات خطيرة تنسف ما وصل خشب لبنان المندثر. كانت أمريكا تدعم بالمُطلق ما سُمّيت يومها «الحكومة العرجاء» إلى درجة لن يستطع أي تحرك إسقاطها.
 ومع استمرار تعطيل المؤسسات الدستورية وغياب الحوار بين القوى اللبنانية بعد اشتداد الأزمة السياسية مع أحداث 23 و25 يناير/ كانون الثاني 2007، أطلق «المنبر» ميثاق شرف بتاريخ 31 يناير/ كانون الثاني 2007، دعا إلى التزام الميثاق الوطني وعدم اللجوء إلى أي نوع من أنواع الأسلحة في حلّ المعضلات شديدة التعقيد. يومها حملنا نصّ الميثاق الذي اتّفقنا حول صيغته، وأوفدنا الحص إلى المرجعيات لتوقيعه. جاءت الوثائق موقّعة من كلٍّ من رؤساء الوزراء السابقين: رشيد الصلح، عمر كرامي، سليم الحص، وميشال عون (الذي ما زلت أحتفظ بوثيقة توقيعه)، فيما امتنع نجيب ميقاتي عن التوقيع. وفي إطار عرض هذه الوثيقة على القوى السياسية، واجهنا مقاطعة القوات اللبنانية والحزب التقدّمي الاشتراكي وتيار المستقبل، فكان أن أُفشلت دعوة المنبر، وصارت في الأرشيف.
 عدنا في «منبر الوحدة الوطنية» إلى واجهة العمل السياسي في الأيام الأخيرة من اكتوبر/ تشرين الأول 2007، بعدما اقتصر عملنا على إصدار البيانات واتّخاذ المواقف وعقد المؤتمرات الصحفية؛ ليطرح الرئيس الحص ومجموعة الشخصيات الملتفة حوله مبادرة تهدف إلى تأمين عبور آمن نحو الاستحقاق، حتى في ظلّ الفراغ الرئاسي، فاقترحنا اتفاقاً بين الرئيسين لحود والسنيورة بتأليف حكومة وحدة وطنية بعيدة عن التجاذبات السياسية للإمساك بإدارة البلد في حال حصول الفراغ، أو استفحاله. ولمس التجمّع إيجابية لدى الرئيسين إميل لحود ونبيه برّي، لكنّ موقف رئيس الحكومة أجهض المبادرة.
 طُبع تاريخ «منبر الوحدة الوطنية» بدخول الساحات السياسية الرسمية المتصارعة من باب الوساطة والتوفيق بين الأطراف، مع غياب الثقة بين الأطراف والتدخلات الخارجية وغياب القوى الوسطيّة المشغولة بالمصالح والمكتسبات إلى تعدّد الآراء الطائفية والكيديات التي تُشيع التناقض، علماً بأن الرئيس الحص يبقى الرمز الجامع المشترك بين مختلف الآراء.، وهو في فراشه، كأنّ اليوم حنين نحو أمسٍ دامٍ عبر.
 يُمسك الرئيس الحص من فراشه بزمام شرف فنون المواقف والكلام، الذي نرغب أن يمتلكه الجميع في الوقت الذي يحسدون فيه أولئك القادرين على قوله وممارسته، أولئك الذين تربوا وتمرّسوا بالديمقراطية، لا بالشجاعة، ولا بالثراء، أو بالأعمال المستهدَفَة من الناس التي نعرفها ونألفها اليوم في لبنان، وإنّما بالكلام الوحيد الديمقراطي في القول والممارسة الذي يرفع منزلتهم الوطنية. الكلام والموقف الحر هما من أحجار الزاويا في فهم معنى الديمقراطية وكشف التربية السياسيّة لكلٍّ منا، والذين يتفننون فيه هم أصحاب سلطة واقتدار ليس في مدنهم، وحسب وإنّما لدى المواطنين كلّهم. هم أصحاب شرف وحظوة وسلطان أينما كانوا فوق عروش السلطة، أو فوق بساط الشيخوخة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"